Rabu, 28 November 2012

MazahibFikriyah,




تحررت المرأة فتحلت من القيود كلها ، وفى مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق .
وطالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيما عليها لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد !
واشتغلت ، فانشغلت عن مهمتها الأولى فى تربية النشء ..
وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال ، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ .
وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده .. حتى الأسرة .. الزوج له عمله ومغامراته ، والزوجة لها عملها ومغامراتها .. والأولاد يغادرون البيت فى سن معينة ولا يعودون بعد ذلك ، ولا يربطهم بالأب والأم رباط ، إلا زيارات خاطفة فى مناسبات متباعدة فى أحسن الأحوال .. ويكبر الأبوان فى تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب .. فينشدان سلواهما فى الكلاب !
وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة ، من بينها – كما يقولون هم بأفواههم – رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب ..
وفى جانب آخر من الأرض قامت " فلسفة " بشرية مغايرة ، وإن كانت تشترك مع سابقتها فى كثير من السمات !
تشترك معها فى إخراج المرأة من البيت وشغلها عن الأسرة والأولاد .
وتشترك معها فى تحطيم كيان الأسرة ..
وتشترك معها فى حل روابط المجتمع ..
ولكنها تختلف عنها فى الطريقة !
فى الأولى يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس . فيتحطم المجتمع نتيجة المبالغة فى إحساس الفرد بذاتيته الزائدة عن الحد .
وأما الثانية فتجعل المجموع هو الأساس إلا الفرد ، فتسحق الفرد من أجل المجموع ، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولا كيان !
(4) فى العلم :
بدأ الصراع بين الدين والعلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء فى الأفران .. وكانت الكنيسة هى المعتدية بلا شك ، وكانت حماقة شنيعة منها أن تقف هذا الموقف من أمور علمية بحتة ، يخطئ العلماء فيها أو يصيبون ولكنها تظل فى دائرة العلم لا يتدخل فيها " رجال الدين " لأن الدين الصحيح لم يحرم البحث العلمى ، وإنما لفت نظر البشر إلى آيات الله فى الكون ، وقال لهم تفكروا فيها وتدبروا لتعرفوا قدرة الخالق العظيم ، دون أن يقيدهم بنظرية معينة فى تفسير ظواهر الكون ، بل ترك ذلك للعقل البشرى يحاول فيه بقدر ما يطيق ..
ولكن الاحتجاج بحماقة الكنيسة لفصل الدين عن العلم أو بذر بذور العداء بين الدين والعلم كان فى ذاته حماقة أشد !
فلتكن الكنيسة حمقاء بقدر ما تكون .. ولكن الفطرة السوية لا تفصل بين الدين والعلم ، لأن كلا منهما نزعة فطرية سوية لازمة للكيان البشرى ، ولازمة لمهمة الخلافة التى وجد الإنسان من أجلها فى الأرض .
الإنسان عابد بطبعه ، راغب فى المعرفة بطبعه ..
ولا تعارض فى الفطرة السوية بين نزعة العبادة ونزعة المعرفة ، ولا بين الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس .
ولقد خلق الله الإنسان ليعبده :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
وجعل من بين العبادة عمارة الأرض :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
وجعل من الأدوات المعينة على عمارة الأرض العلم النظرى فى صورة " معلومات " عن الكون ، والعلم التطبيقى فى صورة تسخير طاقات السماوات والأرض للإنسان .
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/4-5]
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة الجاثية 45/13]
ومن هنا يكون العلم ذاته جزءا من العبادة المطلوبة من الإنسان ، يستوى فى ذلك العلم بأمور الدنيا والعلم بأمور الدين ، فإن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى تحتاج إلى هذا العلم وذاك .. العلم الدنيوى من أجل العمارة المادية . والعلم الدينى لجعل هذه العمارة المادية مستقيمة على المنهج الربانى ، وتلك هى الخلافة الراشدة المطلوبة من الإنسان .
من أجل ذلك لا يوجد فى الدين الصحيح ولا فى الفطرة السوية تعارض ولا تنازع ولا خصومة بين الدين والعلم ! إنما تعمل نزعة العبادة ونزعة المعرفة فى تناسق كامل فى النفس السوية دون قلق ولا حرج ولا تصادم ولا نزاع ..
وكذلك قامت الحركة العلمية الهائلة التى قامت فى العالم الإسلامى فى ظل العقيدة ، بل بدافع من العقيدة ! فمن المعلوم من التاريخ أن المسلمين لم يصبحوا أمة علم إلا بعد أن دخلوا فى الإسلام !
ولقد كان النموذج الإسلامى قائما حول أوروبا من الشرق والغرب والجنوب .. بل إن أوروبا لم تعرف العلم الحقيقى إلا حين أرسلت أبناءها يتعلمون فى مدارس المسلمين فى الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية الإسلامية ، فلئن كانت الكنيسة قد ارتكبت حماقتها بمعاداة العلم والعلماء ، فلقد كان الحل هو نبذ دين الكنيسة الفاسد لا نبذ الدين كله ، وقد رأوا نموذجا مفلحا ومثمرا منه فى العالم الإسلامى .. ولئن كانت " المكايدة " قد أصبحت هى العملة المتبادلة بين الكنيسة من جهة والعلماء من جهة ، فلقد كان المقتضى السليم لذلك هو أن يرد العلماء للكنيسة إلهها الزئاف الذى تعذب العلماء باسمه وتطاردهم ، ويفروا إلى الله الحق الذى وجدوه معبودا عند أولئك العلماء الأفذاذ الذين تتلمذوا عليهم وتعلموا العلم على أيديهم ، والذى وجدوا العبادة الصحيحة له تخرج مثل هؤلاء الأفذاذ ، وتتيح لهم حرية البحث العلمى بلا قيود .
ولكن رد الفعل للحماقة التى ارتكبتها الكنيسة كان حماقة جديدة ارتكبها " العلماء " !
لقد كانوا معذورين فى أن يتشككوا فى كل حرف تقوله الكنيسة وتزعم أنه من عند الله ، وفى أن يبدأوا العلم كله من نقطة الصفر ، ويجربوا لأنفسهم ليثبتوا .. فهذا على أى حال هو المنهج العلمى الصحيح الذى تعلموه على أيدى أساتذتهم المسلمين . وكلنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق ، فيلوون رؤوسهم فى كبر ، أو يهزون أكتافهم فى استهتار " غير علمى " ! ويقولون إنه ليس الله ، ولكنه الطبيعة !
هنا الحماقة التى لا يبررها شئ .. لا الأمانة العلمية ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان !
ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود ..
مجرد ذكر اسم الله فى البحث العلمى يعتبر إفسادا للروح العلمية ، ومبررا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذى جعلوه إلها من دون الله !
بل مجرد الاعتقاد بوجود الله ، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمى ، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك فى كل ما يقول ، ويجعله موضع الزراية من العلماء " الحقيقيين " ! الذين لابد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم !
أى زراية بالعلم ذاته تؤدى إليه هذه الحماقة ؟!
بل أى روح " غير علمية " تلك التى تسيطر على " العلماء " فى تلك الجاهلية التى تقوم باسم العلم ؟!
ما التعصب إذن ، وما فقدان " الروح العلمية " والأمانة العلمية إذا كان هذا علما وأمانة وروحا علمية؟
وأى انتكاسة فى عالم " القيم " وعالم " الإنسان " أكبر من تلك الانتكاسة الشنيعة التى ترفض " الحقائق " بمجرد الأهواء ؟!
وكيف – كما قلنا من قبل – كيف يكون الشئ ذاته صحيحا " وعلميا " إذا نسب إلى الطبيعة وغير صحيح وغير علمى إذا نسب إلى الله ؟! ويكون هذا هو الشرط الذى لا يقبل غيره للدخول فى مجال العلم والعلماء ؟!
وكيف يتأتى لهذه الجاهلية أن تفصل – فى النفس الواحدة – بين نزعتين فطريتين : نزعة العبادة ونزعة العلم ، فتقول للناس : إذا أردتم الله فاتركوا العلم وإذا أردتم العلم فاتركوا اله ، وتسمى هذا " علما " و" روحا علمية " ؟ وما الفرق بين هذه الحماقة وحماقة الكنيسة التى من أجلها حاربها العلماء ؟!
ألم تقل الكنيسة نفس القولة ولكن من الجانب الآخر ؟! قالت ك إذا أردتم الله فاتركوا هذا العلم ، وإذا أردتم هذا العلم فأنتم خارجون على الله !
وحين نستبدل حماقة بحماقة هل نكون راشدين ؟ وهل يحق لنا أن نستعلى بحماقتنا على حماقة الآخرين ؟!
على أن الحماقة البديلة لا تقف عند حد تمزيق البشرية بين نزعتيها الفطريتين ، مما يشكل سببا من الأسباب الكثيرة للاضطراب والقلق النفسى والعصبى الذى تعانيه الجاهلية المعاصرة . إنما يستخدم العلم عن قصد فى إفساد العقيدة وإفساد الأخلاق ..
فبين الحين والحين تخرج " أبحاث علمية " كاذبة – ويعلم أصحابها أنهم كاذبون – تزعم أن الإنسان قد " خلق " الخلية الحية فى المعمل ! وتسفر الحقيقة بعد الاستفسار والتقصى أنهم أعادوا تركيب خلية حية فى المعمل من أجزاء حية أخذت من مجموعة من الخلايا الحية !!
ولكن هذا الدجل " العلمى " يراد به أن يقال للناس ها هو ذا الإنسان قد خلق فلم تعد هناك ضرورة للخالق ! أى يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد فى الأرض ، وتتقبله المجلات " العلمية " الرصينة التى ترفض أى بحث علمى يذكر فيه اسم الله !
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
وسيظل التحدى الربانى قائما فى وجه الملحدين :
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35)} [سورة الطور 52/35]
وكما يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد تستخدم ثمار العلم لإفساد الأخلاق . وأوضح الأمثلة على ذلك حبوب منع الحمل التىي قول الأطباء " الأمناء " – وقليل ما هم – إنها ليست مأمونة تماما ، وإنها قد تسبب أضرارا خطيرة ن وإنها ينبغى ألا تستخدم إلا بإشراف الطبيب .. هذه الحبوب تباع فى الصيدليات بسعر منخفض يكاد يساوى سعر التكلفة ، ويباع لأى فتاة تطلبه – وتكرره – دون تذكرة طبية .. لأنها – كما لا يخفى – أداة جبارة لنشر الفاحشة فى الأرض ، لأن الفتاة التى تستطيع أن تأمن نتائج اتصالاتها الجنسية غير المشروعة أيسر انزلاقا من التى تخشى حدوث المتاعب من هذه الاتصالات .
وذلك فضلا عن صرف جهود كثيرة فى أبحاث " علمية " بقصد اختراع المدمرات البشعة بغير موجب حقيقى ، فقد كان انتصار بعض البشر على بعض ممكنا بغير كل تلك البشاعة فى أدوات التدمير .. " [1]"
وهذا الشر العميق كله قد نشأ من " علمانية " العلم .. أى من ذلك المبدأ الملوث الشرير : مبدأ فصل الدين عن الحياة ..
(5) الأخلاق :
ربما لم يكن هناك مجال تأثر بالعلمانية بقدر ما تأثرت الأخلاق ..
ذلك أن الدين هو المنبع الطبيعى للأخلاق ، فإذا جفف هذا المنبع أو جف بسبب من الأسباب فلابد أن يتبعه حتما انهيار تدريجى فى الأخلاق ينتهى إلى " اللاأخلاق " .
ولقد كانت " النهضة " فى أول عهدها تعتقد – ربما بإخلاص وحسن نية – أن فى إمكانها أن تجد للأخلاق منبعا آخر غير الدين .. من الطبيعة أو من النفس البشرية أو من أى مكان آخر .. والواقع أنهم كانوا فى أول مرحلة الفساد ، فكانوا هم أنفسهم لا يتصورون أن البشرية يمكن أن تعيش بلا أخلاق ، أو أنه سيأتى وقت عليها تكون عارية من الأخلاق . فكان المشكل بالنسبة لهم هو محاولة البحث عن منبع للأخلاق غير الدين ، حتى لا تتخذ تلك ثغرة يهاجمون منها من قبل ذوى الغيرة على الأخلاق وهم يومئذ غير قليل .. ولكن المنبع البديل – أيا كان هو – قد أثبت عجزه عن إنبات القيم التى يحتاج إليها الإنسان فى حياته ، ككل التصورات التى تخطر فى بال الفلاسفة ولا تتعدى أذهانهم إلى واقع الحياة !
ثم جاءت أجيال أكثر علمانية من السابقة ، لأنها كانت قد بعدت أكثر عن المنبع الحقيقى للقيم ، فبدأت تناقش مبدأ القيم ذاته : هل هى ضرورية حقا للحياة البشرية ؟ وهل هى حقائق واقعية أم مجرد مثل خيالية معلقة فى الفضاء غير قابلة للتطبيق ؟ وإذن فلماذا لا نكون " واقعيين " ونتعامل مع الواقع البشرى كما هو ؟ أى بغير مثل وبغير قيم ؟!
وكانت هذه بداية موجة جديدة من الانحدار على المنزلق .. فإننا إذا سلمنا بالواقع الموجود اليوم على أنه هو الواقع الذى لا يمكن أن يوجد أفضل منه ، فما الذى يمنع هذا الواقع أن ينحدر غدا إلى هوة جديدة ، ثم ما الذى يمنعنا من مجاراته فى الهبوط بحجة الواقعية ؟!
إن الذى يمنع من هذا شئ واحد ، هو وجود القيم الأصيلة التى نقيس إليها أفعالنا ومستوانا ، لنعرف على ضوئها أهابطون نحن أم مرتفعون .. فإذا وجدنا أننا هبطنا حاولنا أن نوقف هبوطنا ونصعد من جديد .. أما فى غياب الميزان فما المعيار ؟ إن الواقعية ليست معيارا يقاس إليه أى شئ ، ما دامت تعتبر الواقع هو المقياس ! والناس إذا أفلتت أيديهم من خيط الصعود الذى يشدهم إلى أعلى فلابد أن تهبط بهم ثقلة الشهوات وجواذب الأرض فيزداد واقعهم هبوطا على الدوام .. وما دام معيارنا هو الواقع ، فسيظل المعيار ذاته يهبط مع هبوط الإنسان ! ونظل نحن – بحجة الواقعية – نتابع الهبوط .
لقد كان القرن التاسع عشر " واقعيا " فنبذ القيم التى سماها مثالية – بمعنى غير واقعية – واعتبرها ترفا عقليا لا تطيقه طبيعة الحياة ..
وكانت نتيجة ذلك هى القرن العشرين ! قرن التفلت من القيود كلها ، والهبوط إلى الحمأة التى يستعفف عنها الحيوان !
وذلك أمر معروف من التاريخ وإن جادلت فيه الجاهلية المعاصرة ، وهى ليست أول جاهلية تجادل فى الحق وتنكر البديهيات ! إن أى جيل من أجيال البشرية أنكر القيم الإنسانية لم يقف حيث كان يوم أنكرها ، إنما ازداد هبوطا .. حتى أدركه الدمار !
ولنستعرض خط العلمانية مع الأخلاق من أوله لنعلم مدى الهبوط ..
ولنبدأ بالمفهوم الحقيقى للأخلاق ، الذى كانت تؤمن به أوروبا ذات يوم ثم ظلت تتخلى عنه خطوة خطوة وهى تسير مع الشيطان .
إن الأخلاق " ميثاق " شامل .. يشمل كل أعمال الإنسان .
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [سورة الرعد 13/19-22]
والميثاق هو أصلا ميثاق مع الله ، تتفرع منه وتندرج تحته جميع المواثيق :
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 4/58]
وأول الأمانات هى الأمانة المؤداة إلى الله ، ثم تأتى بعدها جميع الأمانات التى أبرز سياق الآية منها الحكم بين الناس بالعدل ..
وعلى هذا الأساس يكون للسياسة أخلاق ، وللاقتصاد أخلاق ، وللاجتماع أخلاق ، وللعلم أخلاق ، ولكل شئ على الإطلاق أخلاق .. ولا يكون هناك شئ واحد فى حياة الإنسان بلا أخلاق ..
ومنشأ الأخلاق ليس هو الفرض من الخارج . فى صورة أوامر ونواه وزواجر من عند الله أو من عند غيره ، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذى يحدد ما هو حلال وما هو حرام ، وما هو حسن وما هو قبيح ، وما هو خير وما هو شر .. الخ فيتبعه المؤمنون التزاما بما أنزل الله ، وأما غير المؤمنين فيستمدون ذلك كله من عند غير الله . وفى الحالين لا يكون هذا هو منشأ " الأخلاق " عند هؤلاء وهؤلاء .. إنما يكون فقط هو منشأ " المعايير " التى تضبط الأخلاق .
إنما تنشأ الأخلاق – كما قلنا منق بل فى أكثر من موضع فى الفصول السابقة – من طبيعة الإنسان ذاته ، ومن أن له طريقين ، وأن له القدرة على التمييز والاختيار بين الطريقين :
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}  [سورة الشمس 91/7-10]
ومن ثم فالقيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته .. وإنما تختلف القيم باختلاف واضعها : هل هو اله أم هم البشر . فإن كانت من عند الله فهذه هى القيم الحقيقية الصالحة ، لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له وما يصلحه :
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
وإن كانت من عند البشر فهى عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . وتاريخ البشرية فى جاهليتها هو الدليل ، يستوى فى ذلك أن يكون الجاهليون من الفلاسفة أو من عامة الناس !
ولقد كان هذا كله واضحا لأوروبا المسيحية فى الفترة التى سيطر فيها الدين على قلوب الناس ، بصرف النظر عما فى ذلك الدين الكنسى من انحرافات .. فقد سبق أن قلنا إن وجود الانحراف والتحريف فيه لم يمنع وجود بعض الحقائق لأنهم كما يقول الله عنهم : " فنسوا حظا مما ذكروا به " وبقى مما ذكروا به بعض أشياء .. وكانت القيم الخلقية من بعض هذه الأشياء .
ثم زحفت العلمانية شيئا فشيئا على الحياة الأوروبية فأقصت الدين عن الحياة بقدر ما تمكنت هى من الحياة .. ومع إقصاء الدين أقصيت الأخلاق ، لأنها أصلا مستمدة من الدين .
وأول مجال أزيحت الأخلاق عنه هو مجال السياسة منذ قال مكيافيللى : إن الغاية تبرر الوسيلة .. ومعناها بصريح العبارة إسقاط الأخلاق من مجال السياسة ، وممارسة السياسة بلا أخلاق !
ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادى منذ الثورة الصناعية بتحليل الربا ، وتحليل الغش والخداع والكذب وسرقة أجر الأجير وشغل الناس بتوافه الأشياء من أجل الربح ، وتحليل شن الحروب والاستعمار من أجل إيجاد أسواق لتصريف البضائع .. إلى آخر ما قامت به الرأسمالية من حيل غير شريفة للاستزادة من المال على حساب البشرية .
ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم ، فلم يعد هدف العلم البحث عن الحقيقة المجردة – له – إنما صارت تصاحبه المصالح والأهواء والشهوات التى أسلفنا نماذج منها فى إبعاد اسم الله عمدا من البحث العمى مع وضع بديل مزيف هو الطبيعة ، لا لأن هذه حقيقة ولكن لأنها تخدم هدفا معينا فى معركة معينة بين العلماء وبين الكنيسة ! ومن نشر أبحاث كاذبة بقصد نشر الإلحاد . ومن استخدام ثمار العلم لإفساد الأخلاق .. وغير ذلك مما كان مستحيلا أن يحدث فى ظل سيطرة الدين على مشاعر الناس ، ومن ثم التزامهم بأخلاقيات الدين .. ولكنه يحدث بسهولة فى ظل العلمانية التى تفاخر بإقصاء الدين عن كل مجالات الحياة !
ثم أزيحت الأخلاق من مجال الفكر . فلم يعد يحس المفكر أنه ملتزم بأمانة معينة هى فى أصلها الأمانة المؤداة إلى الله .. فحفلت وسائل الإعلام جميعا من أول لكتاب إلى التليفزيون ، مرورا بالصحيفة والمسرح والسينما والإذاعة ، بكل صنوف التضليل والكذب والخداع والغش وإفساد العقيدة وإفساد الأخلاق .
ثم أزيحت من مجال العلاقات الجنسية بصفة خاصة – وهى أدق مجالات الأخلاق – فقيل إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالأخلاق ! أى مسألة ذكر وأنثى يجرى بينهما ما يجرى بين الذكر والأنثى .. بلا قيود ولا أخلاق ولا ضبط ولا تصعيد .. وكانت الحمأة الدنسة التى تردت فيها البشرية ، وكان السعار الجنسى المجنون الذى لا يشبع ولا يرتوى ولا يفيق ..
وأخيرا أفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قبل إنه ليس لها وجود ذاتى ، إنما هى انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، أو إنها من مصنع العقل الجمعى وإنها تتغير على الدوام ولا تثبت على حال !
وسقط " الإنسان " بسقوط الأخلاق !
(6) فى الفن :
كان الفن فى أوروبا فى فترة الجاهلية الكنسية فنا دينيا بمعنى أنه موجه لخدمة الدين ، وكان يحمل كل ما فى العقيدة الكنسية من انحراف ، إذ كان كله موجها لتمجيد " الرب " الذى ألهته الكنسية وهو المسيح عيسى بن مريم ، أو تمجدي الأقانيم الثلاثة عامة : الأب والابن وروح القديس ، مع مريم البتول ومجموعة من القديسين .. سواء بالشعر أو النثر أو الرسم أو التصوير (بمعنى إقامة التماثيل) .
وقد لاحظت فى كتاب " جاهلية القرن العشرين " ملاحظة خاصة بالفن الأوروبى ، وقلت إنها معروضة للدراسة لمن أراد أن يدرس ، تلك هى أن الفن الأوروبى فى جميع أدواره التاريخية كان مشغولا بالمعبود .. فحين كان المعبود فى الجاهلية الإغريقية مجموعة من الآلهة المختلفة توجه الفن الإغريقى إلى تلك الآلهة سواء فى الأساطير أو المسرحيات أو التماثيل . وحين انتقلت أوروبا إلى المسيحية عنى الفن بالإله كما صورته الكنيسة ، وحين كفرت أوروبا بإله الكنيسة وألهت الطبيعة اتجه الفن إلى المعبود الجديد وخاصة فى الفترة الرومانسية ، وحين صار المعبود هو " الإنسان " اتجه الفن كله إلى دراسة الإنسان فى جميع أوضاعه .
واليوم صارت المعبودات فوضى ، وتمثلت الفوضى كذلك فى الفن الأوروبى الحديث !
وهذه نقطة فنية على أى حال ليس مجالها التفصيلى فى هذا الكتاب إنما ينبغى أن تدرس دراسة نقدية متخصصة .
ثم إنى ألفت كتابا كاملا هو " منهج الفن الإسلامى " لأبين العلاقة بين الفن الصحيح والدين الصحيح ، وكيف تكون مجالات الفن الملتزم بالدين ، وكيف أن ارتباط الفن بالدين لا يضيق مجالاته كما يفهم البعض ، ولا يحوله إلى مواعظ دينية كما يفهم البعض الآخر ن إنما يوسع مجالاته فى الحقيقة ويعمقها ، ولكنه ينظفها فقط ويطهرها من الأرجاس .
وليس هنا مجال إعادة الحديث فى هذه الموضوعات ..
إنما نحن هنا نتحدث فقط عن آثار العلمانية فى الفن الأوروبى ..
فأول آثارها – فى التسلسل التاريخى – هو عبادة الطبيعة فى الفترة الرومانسية .
وليس ثمة عيب – كما قلنا من قبل – فى مناجاة الطبيعة والتفاعل معها والحفاوة بها ، فذلك كله أمر طبيعى فى النفس السوية . ذلك أن الله خلق الكون جميلا ثم جعل فى النفس البشرية حاسة تلتقط الجمال وتنفعل به . والقرآن يوجه الحس توجيها صريحا لرؤية الجمال فى الكون والإحساس به ، لا فى الورود والأزهار والجبال والوديان فحسب ، بل فى الأنعام كذلك ، التى هى مظنة الفائدة وحدها .
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [سورة النحل 16/5-6]
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/99]
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} [سورة النمل 27/60]
ولكن رؤية هذا الجمال والتفاعل معه والانفعال به تحدث به فى النفس السوية توجها إلى الله بالعبادة لأنه هو خالق هذا الكون الجميل ومسخره للإنسان ، وخالق هذه الحاسة الجمالية فى تركيب الإنسان ليستمتع بهذا الجمال .
أما النكسة العلمانية فى الحس الأوروبى المنسلخ من الدين فقد ذهبت فى طريق آخر مخالف ، فجعلت من هذا الحس الجمالى وثنية كاملة تعبد الطبيعة بدلا من عبادة الله . وقد وردت كلمة الوثنية بالذات ورودا مكررا فى شعر الرومانسيين كأنما هو أمر مقصود !
بل إن الرومانسية فى الحقيقة هى التى يسرت للحس الأوروبى الانزلاق إلى تلك المغالطة المكشوفة التى جعلت الطبيعة إلها بدلا من الله ، حتى سرت هذه المغالطة إلى " العلماء " أنفسهم فتعاملوا معها كأنها حقيقة واقعة .. بل صاروا فى النهاية يقبلونها – وحدها – على أنها هى العلم ، ويرفضون الحقيقة الأصلية وهى كون الله هو الخالق ، ويعتبرونها إفسادا لروح البحث العلمى !
ثم ذوت الرومانسية بعد فترة من الوقت وحلت محلها الواقعية رد فعل لها ، إذ كانت الرومانسية مغرقة فى الخيال المغرب فجاءت الواقعية لترد الناس وترد الفن إلى الواقع ..
ولكن أى واقع هو الذى ارتد إليه الفن وارتد إليه الناس ؟!
إنه الواقع الصغير .. الهابط .. المنسلخ من الدين .. من القيم .. من الأخلاق !
ففى الفترة التى استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على خط العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا ، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم .. ثم تقول هذا هو الواقع البشرى !
فأما كون هذا هو الواقع الذى كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لا شك فيه ، وأما أن هذا الواقع البشرى على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ . تكذبه فترات الهدى فى حياة البشرية ، التى ارتفع الناس فيها إلى قمم  تبدو – فى هذا الواقع المنحرف – كأنها خيالات ، ولكنها كانت واقعا عاشه الناس بالفعل ، وينبغى أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب منه . وليس المطلوب من الفن الواقعى أن يدارى على هبوط الناس ولا أن يصورهم فى صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا ! كلا فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش . ولكن هناك فرقا بين تصوير الواقع على أنه واقع نعم ، ولكنه منحرف عن الأصل الذى كان ينبغى أن يكون عليه ، وبين تصويره على أنه هو الواقع الإنسانى الذى لا يمكن تعديله أو لا ينبغى تعديله أو لا يعنينا تعديله ! كلاهما تصوير للواقع . وكلن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار ، ويدعو إلى الارتفاع عنه ، والآخر يعطيه شرعية الوجود فتكون النتيجة الحتمية – دائما – مزيدا من الهبوط !
نموذج الواقعية الهادفة هو سورة يوسف فى القرآن الكريم :
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/23-24]
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [سورة يوسف 12/31-32]
ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة .. إنما اللقطة الأخيرة هى الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع :
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [سورة يوسف 12/51-53]
ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذى يدعى الواقعية وهو فى الواقع يدعو إلى الهبوط ! وهبه صادقا فى ادعاء الواقعية فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع ؟! ثم لماذا لا يسمى الهبوط باسمه الحقيقى وهو الهبوط ؟!
ثم .. تبعثرت الاتجاهات الفنية فى الفترة الأخيرة .. ولكنها حافظت على طابع واحد .. هو الهبوط !
من السريالية إلى الوجودية إلى اللامعقول .. إلى أدب الجنس المكشوف ..
أما السريالية فقد تتبعت التلحيل النفسى الذى أنشأه فرويد وقال فيه إن حقيقة النفس الإنسانية ليست فى النفس الواعية التى تتعامل مع الواقع الخارجى ، إنما هى فى العقل الباطن الذى لا ترتيب فيه ولا منطق ! فحاولت فى نماذج أقرب إلى الخبل منها إلى العقل أن تبرز " حقيقة النفس الإنسانية " ! فلم تصنع شيئا فى الحقيقة إلا بعثرة هذه النفس إلى قطع متناثرة لا دلالة لها ولا معنى ولا طعم .
وأما اللامعقول فقد كان هروبا من " المعقول " هروبا من العقلانية التى طغت على الفكر والحياة الأوروبية ، ومحاولة للقول بأن الحياة ليست معقولة .. ليس لها هدف ..ليس لها نظام .. ليس لها منطق .. ليس لها غاية .. إنما تحدث فيها الأحداث لمجرد الحدوث ! وحين تحدث فإنه يكون لها ثقل " الواقع " . ولكن حدوثها وعدم حدوثها سيان ! وحدوثها على هذه الصورة وحدوثها على صورة أخرى سيان ! لأن كل الصور تتساوى فى عدم المعقولية وفى الافتقار إلى معنى واضح وغاية واضحة .
ولقد كان هذا تعبيرا باطنيا حقيقيا عن أن الحياة فقدت معناها وفقدت غايتها حين فقدت الخيط الذى ينظمها جميعا وينظمها ويفسر غايتها ويفسر أحداثها ، وهو الدين .. ولكن الجاهلية لا تدرك ذلك ، وتأخذ الأمر على أنه مجرد فن ! أو إن أدركت فإنها تدرك أن الحياة البشرية أصبحت فى حاجة إلى " فلسفة " جديدة تعطيها معنى وتعطيها غاية ، بشرط ألا تكون هذه " الفلسفة " مستمدة من الدين !!
وأما الوجودية فهى أخبث من ذلك لكه .. ولا تنس أن سارتر – " الكاتب الإنسانى الغظيم " – يهودى من أم يهودية .
تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية .. ولا عدل فيها ولا حق . إنما كله ضلال وعبث . وإن الوجود الإنسانى ضياع كله ، ومن المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده !
وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضا تعبير باطنى صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذى يوجد الترابط بن أجزائها ويعطى أحداثها تفسيرها ومعناها وهو الدين .
ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية .. ولكنها تقدم حلا للمشكلة ! وياله من حل !
الحل أن يعيش كل إنسان وحده ، وأن يحقق وجوده بأن يفعل م يرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسن !
فى مسرحيته " الجحيم هو الآخرون " يرسم الجحيم فى نفس إنسان – إذا كان إنسانا ! – يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من جود آخرين لا يكفون عن الوجود من حوله ، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه ، فيمنعونه أن يكون نفسه .. أن يحس بذاتيته .. أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصى . فيظل ساكنا ساكتا يتعذب . يتطلع إلى اللحظة التى يذهب فيها عنه " الآخرون " لينطلق بوجوده الذاتى ، ليحقق ذاته .. وكلنهم لا ينصرفون .. فيظل هو فى الجحيم !
أما أدب الجنس المكشوف – إن كان يسمى " أدبا " – فو واضح من أن يحتاج إلى تعليق !
وفى تاريخ البشرية كله ط آداب " تعالج الجنس بقصد الإثارة ، أو تعبر عن تجارب هابطة لإنسان شهوان .. ولكنها كانت تأخذ فى عالم الأدب مكانا منزويا ، يتستر بها صاحبها فى الظلام ، ويسقط عمن يتعاطونها رداء التوقير والاحترام ، ويقبل عليها ط المراهقون " من أى عمر كانوا ، فليست المراهقة فترة معينة من عمر الإنسان كما هى فى اصطلاح علم النفس ، إنما هى حالة نفسية غير مستقرة وغير متزنة يمكن أن يصاب بها الفتى فى إبان طيشه ، ويمكن أن يصاب بها ابن السبعين .. فتخف أحلامه ويذهب وقاره وتذهب عنه قدرته على الحكم المتزن على الأشياء ..
ولكن الجديد الذى أحدثه " التطور " العلمانى هو إعطاء " الشرعية " لهذا الهبوط الحيوانى ، وكشفه فى النور ، وإعطاؤه صفة " الفن " ، ووضع منتجيه فى قائمة المشاهير ، بل فى قائمة العظماء من الفنانين ! وينشغل النقد الأدبى والنقد الفنى بتتبع آثارهم وكشف جوانب العظمة الفنية فيهم .. بل يتبجح نقاد فيبحثون لهم عن عظات " نفسية " فى وسط الماخور الكبير الذى يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد و" فنانين "
لقد سقط " الإنسان " كله إلى السراديب ، وقرر المقام هناك ، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها " البضاعة الحاضرة " ! ولم تعد سرا يستخفى منه .لم تعد قذارة تستنكر .ز لم تعد شيئا يتقزز منه الناس .
أرأيت إلى دودة الأرض اللاصقة بالطين ؟! إنها تستروح أنسام المستنقع الآسن الذى تعيش فيه ، وترى أنه بالنسبة لها هو الوضع الطبيعى .. هو الأصل الذى ينبغى أن تعيش فيه !
أرأيت لو أنك أردت أن ترفعها من الطين وتنظفها ؟
إنها تستنكر وترفض .. وتتفلت من بين أصابعك لتزداد لصوقا بالطين !
وهكذا لم يعد أدب الجنس المكشوف قذارة يترفع عنها الفن . إنما صار هو الفن الذى يتفنن فيه الكتاب ، يعرضون مفاتنه – أو بالأحرى مباذله – فى تفصيل دقيق مكشوف ، ويعرضونه على أنه قاعدة الحياة أو قمة الحياة !
هل هى عدوى " فرويد " فى عالم الفن ؟
لاشك أن فرويد مسئول عن البداية التى ابتدأ بها هذا الفن الهابط . وقد كانت البداية هى قصة " عشيق ليدى تشاترلى Lady Chatterly’s Lover للقصاص الإنجليزى د . هـ . لورنس  D. H. Lawrence المتتلمذ على فرويد ، والذى يعتبر هو نفسه " حالة فرويدية " . تلك القصة التى صودرت وصودرت وصودرت .. ثم أبيحت مع حذف الجزء الشديد الإفحاش منها . ثم أبيحت مع جزء منه .. ثم أبيحت كاملة كما هى .. عارية من كل حياء .. وطبع منها ملايين !
ولكن فرويد وحده لا يكفى لتفسير كل ذلك الهبوط ..
إنه الانسلاخ من الدين ، الذى يسمى " العلمانية " !
ففرويد لم يكن يتصور – وإن تمنى – أن تأتى يوم تعرض فيه العملية الجنسية على المسرح بوصفها جزءا من مسرحية " فنية " ! ثم ينقلها التليفزيون على شاشته ليراها الأولاد والبنات فى البيوت !
وذلك إلى آلاف وآلاف من المسرحيات والقصص والأفلام والأغانى والصور والصحف والمجلات ، لا تعرض شيئا إلا الجنس ، ولا تعرضه إلى وضع الحيوان .
تلك هى العلمانية فى مجالات الحياة المختلفة .. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والعم والأخلاق والفن .. ولك نشاط يمكن أن يصدر عن " الإنسان " إن كان قد بقى له بعد ذلك كله مكان فى عالم " الإنسان "!
وتقول العلمانية – الغربية على الأقل – إنها لا تحارب الدين ! فمن شاء أن يتدين فليتدين ! وانظر حولك تجد متدينين بالفعل لا تتعرض لهم العلمانية من قريب ولا من بعيد !
أرأيت لو أن إنسانا أطلق حولك كل أنواع الجراثيم الموجودة فى الأرض ، فى الهواء الذى تتنفسه . فى الماء الذى تشربه . فى الطعام الذى تأكله . فى الوجود الذى تلمسه . ثم قال لك إن أردت أن تظل سليما معافى فكن كما شئت ، فنحن لا نتعرض لك ! كم يكون قوله مسخرة المساخر ، وكم يكون مغالطة مكشوفة ؟!
وذلك فضلا عن أنه فى عرف نفسه لا يعتبر ما يطلقه من حولك جراثيم .. بل يعتبرك أنت الجرثومة التى يخشى منها على كيانه ، والتى لم يستطع أن يقضى عليها قضاء كاملا فتركها وهو يتمنى – من الشيطان – أن تزول !
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
إن الدين – حتى بمعناه الغربى المشوه – لم يعد له مكان فى العلمانية المعاصرة .
فإذا كان قد أخرج من عالم الاقتصاد ومن عالم الاجتماع ومن عالم العلم ومن عالم الأخلاق ومن عالم الفن .. فماذا بقى له من واقع الحياة وماذا بقى له من النفس الإنسانية ؟!
بقيت له ساعة فى الكنيسة من يوم  الأحد من كل أسبوع عند أفراد من الناس !
نعم .. ولكن ما الدين حتى بالنسبة لهؤلاء ؟
هل له واقع فى حياتهم ؟
هل يمنح قلوبهم الطمأنينة اللازمة لحياة الإنسان .. الطمأنينة التى تتنع التمزق النفسى وتمنع القلق والاضطراب ؟
هل يمنح وجودهم معنى يحميهم من الإحساس بالضياع ؟
هل يمنحهم تصورا للكون والحياة والإنسان غير التصور المادى الذى تقدمه العلمانية الجاهلية ؟
لو سألت أولئك الخارجين من سماع  الموعظة يوم الأحد عن رأيهم الدينى فى التعاملات الاقتصادية الربوية اتى تقوم عليها حياتهم فهل تجد عند أحد منهم تحريما لها أو استنكارا لقيامها ؟ أم يقول لك قائلهم : هذه مسألة اقتصادية .. ما علاقة الدين بالاقتصاد ؟!
ولو سألت أحدا منهم : ما رأيك فى كذب الساسة بعضهم على بعض فى السياسة الدولية ، وعلى شعوبهم فى السياسة الداخلية ؟ ومت رأيك فى الالتزام الحزبى الذى يلزم صاحبه بالمعارضة أو التأييد حسب وضع حزبه من السلطة ؟ وما رأيك فيما تكتبه الصحافة السياسية بقصد التشويش على الحقائق لا بقصد إظهار الحق ؟ أل يقول لك على الفور إن هذه مسائل سياسية .. ولا دخل للدين بالسياسة ؟!
ولو سألت الفتاة وصديقها الخارجين من " الصلاة " ما قولكما فى العلاقة القائمة بينكما ؟ ألسي الدين يحرمها ؟ ألا يقولان لك إن الدين مسألة اعتقادية ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعية ؟! إن لم يقولا لك – كما يقول الكثيرون والكثيرات – إن الجنس مسألة بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق ؟!
كلا ! ما يزيد " الدين " فى ظل العلمانية على أن يكون مجرد وجدانات حائرة لا تلبث أن تتبدد وتضيع فى الدوامة العاتية المعادية لكل ما يأتى من عند الله !
m    m    m

العلمانية والإسلام
إذا صحت دعوى العلمانيين فى الغرب بالنسبة للدين الكنسى أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما فى شؤون الأخر – وهى كما رأينا ليست صحيحة فى الحقيقة- فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق !
لقد كان الدين الكنسى منذ اللحظة الأولى دينا يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا ، نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة ، وجعله عقيدة صرفا إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية .. ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة يلقى أثره على الحياة الدنيا ، قصد الناس أم لم يقصدوا ، ووعوا ذلك فى إدراكهم أم لم يعوه ، فكان ذلك الدين – رغم التحريف الضخم فى كل جوانبه – يعطى أثارا واقعية فى حياة الناس وسلوكهم ، وتصوراتهم ومشاعرهم ، وهى التى جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويدا رويدا حتى أجلتها إجلاء كاملا ، فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس فى الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق ، وبقى عند الأقلية " المتدينة " مجرد مشاعر ووجدانات ، وعلى الأكثر بعض " العبادات " ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئا فى واقع الحياة . وبهذا وحده – أى بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية – أصبحت العلمانية تتعايش – على مضض ! – مع الدين ! وقد كان هذا مسخا بالنسبة للدين الكنسى ذاته ، الذى شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوى .. فكيف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق ؟!
إن الدين احق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة .. فالالتزام بالشريعة – فى دين الله الحق – هو مقتضى العقيدة ذاتها . مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى ، وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعة الله ، ورفض التحاكم إلى أى شريعة سوى شريعة الله .
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65]
يقول ابن تيمية فى كتاب الإيمان (ص 33 من طبعة دار الطباعة المحمدية بالقاهرة) :
" والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب فى ذلك المسمى .. ومن هذا قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد " .
لقد نزل هذا الدين ليعطى التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وليقيم فى عالم البشر واقعا محكوما بهذا التصور ، منبثقا عنه ، مرتبطا به ، متناسقا معه فى كلياته وجزئياته ، ولا يتصادم معه ولا ينحرف عنه .
فالله الخالق البارئ المصور ، الرازق المحيى المميت ، المدبر اللطيف الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. بكل أسمائه وصفاته الواردة فى كتابه المنزل ، هو المتفرد بالألوهية والربوبية ، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك ..
وكل ما فى الكون وكل من فى الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده .. واجبهم عبادته وحده بغير شريك .
والإنسان واحد من خلقه .. متميز .. نعم .. مكرم نعم .. ذو وعى وإدراك وإرادة وفاعلية .. نعم . ولكنه مخلوق من مخلوقات الله ، واجبه ككل خلقه الآخرين محصور فى عبادة الخالق وحده بغير شريك .
ولقد كرمه الله بالوعى والإدراك والإرادة والفاعلية ، وأعطاه قدرا من الحرية فى تصرفاته الإرادية يملك به أن يسير فى طريق الطاعة وأن يسير فى رطيق العصيان .. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه :
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر 39/7]
والذى يقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعا ، الذى خلقها وحده بغير شريك ، ومن تفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية :
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
وبحق الحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له :
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)} [سورة الزمر 39/11]
وإخلاص العبادة يقتضى الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، ويقتضى توجيه الشعائر التعبدية له وحده ، ويقتضى كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التى يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله والإخلال بأى واحدة من هذه الثلاثة يوقع الإنسان فى الشرك ويخرجه من دائرة الإيمان :
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
كما قالوا : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [سورة ص 38/5]
فهذه هى الثلاثة التى أوقعتهم – أساسا – فى الشرك : توجيه الشعائر التعبدية لغير الله ، والتحليل والتحريم من دون الله ، والاعتقاد بوجود آلهة مع اله ..
وكلها مجتمعة شرك ، وكل واحدة بمفردها شرك لا يستقيم معه إيمان ..
والمعاصى تقع من البشر جميعا : كل بنى آدم خطاء " [2]"
ولكنها لا تخرجهم من الإيمان باتفاق علماء الأمة ..
إلا أن يجعلوها شرعا فعندئذ يكفرون بها . بل هم يكفرون بالتشريع ولو لم يرتكبوا المعصية بأنفسهم .. فالذى يقول – بلسانه أو بفعله – إن الله أمر بقطع يد السارق ولكنى أرى أن العقوبة المناسبة للسارق هى السجن – وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية – فقد كفر بذلك وإن لم يسرق بنفسه ولم يفكر فى السرقة .
والذى يقول – بلسانه أو بفعله – إن الله أمر برجم الزانى المحصن وجلد الزانى غير المحصن ، ولكنى أرى أنه لا عقوبة على الزنا إذا كان برضى الطرفين البالغين الراشدين (أى لم تكن الفتاة قاصرا) ولم تقع شكوى من أحد الزوجين ؛ فإن كان هناك اغتصاب أو اشتكى أحد الزوجين فالعقوبة هى السجن – وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية – فقد كفر بذلك وإن لم يرتكب الفاحشة بنفسه ولم يفكر فى ارتكابها ..
وكذلك كل شرع من شرع الله ..
من اعتقد بأفضلية غيره  عليه ، أو حتي مساواته معه ، فعدل عنه إلي غيره ، أورضي بغيره ولم يجاهده بيده أو بلسانه أو بقلبه فقد خرج من دائرة الإيمان ، وأن صلي وزعم أنه مسلم !
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)} [سورة النــور 24/47-51]
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [سورة النساء 4/65]
" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن كرة فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع "
" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل "
فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأني يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقي مع العلمانية التي تقول : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟! أو تقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين .. أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شي في حياة الإنسان ؟![3]
m    m    m



العقلانية
    العقلانية بمعني التفسير العقلاني لكل شئ في الوجود ، أو تمرير كل شئ في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه مذهب قديم في البشرية ، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة ، ويمثله أشد ما يمثله سقراط و أرسطو .
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الاغريقية التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها تسيطر علي الفكر الأوربي حتي جاءت المسحية الكنسية فغيرت مجري ذلك الفكر الأوربي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي كما تقدمه الكنيسة وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ، ومحاولة تقديمه في ثوب " معقول "
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي " : " كان الدين أ, النص طوال القرون الوسطي سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته ، وفي فهمة للطبيعة ، وكان يقصد بالدين " المسيحية " وكان يراد من المسيحية " الكتلكة " وكانت الكثلكة تعبر عن " البابوية " والبابوية نظام كنسي ركز " السلطة العليا " باسم الله في يد الباب ، وقصر حق تفسير " الكتاب المقدس" علي الباب وأعضاء مجلسة من الطبقة الروحية الكبري ، وسوي في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية "[4]
وقد نشأت عن ذلك في الحياة  الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة ، وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخري في هذا الفصل ، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة من إهمال الفلسفة والعلوم الاغريقية والالتجاء إلي الفكر " الديني " فلم يكن " الفكر الديني " من حيث المبدأ ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطي في أوروبا ، إنما كان الخلل كانا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين ، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي ، بعد تحريفها ما حرفت منه ، وإضافتها ما أضافت إليه ، ومزج كله بعضه إلي بعض وتقديمه باسم الوحي .
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطي  كان بسبب إهمالها ، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها ، لم تكن هي في ذاتها برئية من الخلل ولا سليمة من العيوب ، ولا كانت في صورتها التي قدمت فلاسفة الإغريق القدامي زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة ، علي الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها .. وإنما ظل الفكر الأوربي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلي جاهلية حتي عصره الحاضر . فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلي الجاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطي ، إلي جاهلية عصر الاحياء ، إلي جاهلية عصر " التنوير " إلي جاهلية الفلسفة الوضعية .. إلي الجاهلية المعاصرة .
وليس همنا في هذا الفصل أن نستعرض انحرافات الفكر الغربي في جاهلياته المتتابعة ، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر ، ثم نخص بالحديث العقلانية المعاصرة
m    m    m

كانت العقلانية الاغريقية لونا من عبادة العقل وتألهيه ، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته ، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلي " قضايا " تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شئ مختلف عن الوجود ذاته ، حركته الموارة الدائمة ، بمقدار ما يختلف " القانون " الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها ، وبمقدار ما تخلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله ، ويتمشي معه أ, يخالفه !
وكان أشد مايبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة " لقضية "الألوهية و " قضية " الكون المادي وما بينهما من علاقة ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد .
فأول انحراف هو محاولة اقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهة في قضية الذات الإلهية , فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعة وحدود مقدرته ، وما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه ، ولا قدرة له علي الخوض فيه .
وإن المحدود لا يتسني له أن يحيط بغير المحدود ، والفاني لا قدرة له علي الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد ، حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود . إنما يستطيع العقل أن " يتصور " ذلك لونا من التصور ، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد علي هذه الصورة .. أما أن يحيط " بكنهة" علي أي نحو من الانحاء فقضية أخري خارجة عن نطاق العقل ، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها لأنه لن يصل فيها إلي شئ له اعتبار .
وليس معني هذا أن" الدين " كله أمر خارج عن نطاق العقل ، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل .
كلا .. إنما يدخل العقل إلي هذا الميدان من بابن الذي هو مؤهل بطبيعته ان يدخل منه ، لا من الباب الذي لا يقدر علي فتحه ، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداتة ! يدخل من باب إدارك أثارة القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار علي وجود الله ، ومعرفة صفاته التي تفرد بها دون الخلق ، ولكن لا يدخل من باب " الكنة " الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلي نتيجة فيه [5]
أرايت لو أنك أدخلت مفتاحا في قفل أكبر منه ، فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلي فتحة ، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شئ ، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب ، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب ؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع ، وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب ، وتبحث له عن مفتاح أخر يناسبه ، وتحتفظ بمفتاحك للباب الذي يحسن فتحه !
ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ! إنما العيب في إنك أنت تحاول أن تقتحم به باب لا يقدر علي اقتحامه !.
وحين اصرت الفلسفة اليونانية ومن تبعها بعد من فلاسفة النصاري وفلاسفة المسلمين أن يقتحموا باب الكنة بمفتاح العقل  فقد وصلوا جميعا إلي ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلي آخر التاريخ !
لا جرم أن تجد ارسطو ، الذي يعتبره دارسو الفلسفة اعظم " عقل " في التاريخ القديم ، يصف إلهه بعقله علي هذه الصورة :
يقول " العقاد " في كتاب " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ":
" ومذهب أرسطو في الإله أ،ه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا أخر ولا عمل له ولا إرادة . منذ كان العلم طلبا لشئ والله غني عن كل طلب ، وقد كانت الإرادة اختياربين أمرين ، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلي الاختيار بين صالح وغير صالح ولا بين فاضل ومفضول وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطوا أن يبتدئ العمل في زمان لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلي العمل ، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم ، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها ، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه .
" فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولي وهي " الهيولي " .. ولكن هذه " الهيولي " قابلة للوجود يخرجها من القوة إلي الفعل شوقها إلي الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله ، فيدفعها هذا الشوق إلي الوجود ، ثم يدفعها من النقص إلي الكمال المستطاع في حدودها ، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية ، ولا يقال عنها إنها من خلقه الله إلا أن تكون الخلقة علي هذا الاعتبار ..[6]
ويعلق العقاد بصدق علي هذا التصور فيقول :
" كمال مطلق لا يعمل ولا يريد
 " أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو و العدم المطلق علي حد سواء [7]
والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلي قضايا فلسفية ذهنية بحته ، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل ، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفي بالعقل ، فلا تمس الوجدان البشري ، ولا تؤثر في سلوك الإنسان  العملي ، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ..
إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة ، إنما هو موضوع ط العقدية " والرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده ، تبدأ من هناك وتنتهي هناك .. ولا تتجاوز الذهن إلي الواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض , أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله / عقله وجسمه وروحه وكل شئ فيه . إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن ، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن أن تحركت ، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلي " سلوك " معين ينبثق منها ويتناسق معها ، وإلي " حركة " معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع .
 ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية ! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة ، وهم بطبيعتهم محدودون ولكنها وحدها لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة ، والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلي هذا المتاع الذاتي ولا زيادة . أو أن تحركوا فلا تزيد حركتهم علي محاولة إحداث هذه المتعة عند محموعة قليلة حولها . ولا زيادة إنها لا تهدف إلي إحداث " سلوك" معين في واقع حياة الناس ، ولا تملك ذلك ونظرة سريعة إلي واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرين الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح ، فما كانت هناك صلة علي الإطلاق بين " أفكار " هؤلاء الفلاسفة " و " واقع " الناس هؤلاء يتكلمون في " الحكمة " وفي السلوك الإنساني " كما ينبغي أن يكون " والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم ولا يعني نفسه بشئ مما يملأ " أذهان " أولئك المفكرين
أما العقيدة فلها شأن أخر
أنها تخاطب العقل فيما تخاطبه من كيان الإنسان ، ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة ، بل من أجل إحداث الوعي اللازم بحقيقة الألوهية ، الذي يترتب عليه الوعي بالالتزام الواجب تجاه تلك الحقيقة .. أي الالتزام بمقام العبودية ، الذي يستلزم الحب والخشية والطاعة والاستقامة علي أمر الله
ثم إنها تخاطب الوجدان .. أو قل إنها تركز خطابها مع الوجدان وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل لأن الوحدان أن هو الإداة المثل لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلي سلوك عملي ، لأنه حي منفعل متحرك . فهو الأقدر علي تلقي الشحنة العقيدية ، هو الأقدر علي ترجمتها في صورة واقعية حية ، لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقي ، ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة ، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخري .
ولذلك كانت العقدية الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري ، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية ..
ويحدث ولا شك فتور في العقيدة في نفوس الأمر ونفوس الأفراد ، ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات ، ولكن يظل الأمر في اسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف ، ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط علي الإطلاق .
وموضوع الأولهية هو أصلا موضوع عقيدة .. أو هو موضوع " العقيدة " باعتبار الانسان كائنا معتقدا بطبعه ، عابدا بفطرته ، حتي أن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب وليس معني ذلك أنه محرم علي الفلسفة أو الفكر أن يتناوله . ولكنه حين يتناوله علي النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية ، وتبعها فيه فلاسفة النصاري فيما يعرف " باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " أي التناول الذهني التجريدي الخالص ،يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل ، وحوله إلي " كلام " و " أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا ، ولا تغير شيئا في حياة الناس فيتحول إلي زبد لا ينفع.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد 13/17]
وأما الإنخراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الأوهية ، وعدم الرجوع فيها إلي المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني ، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم منع ما يقوله الآخر .
ولا عجب في ذلك ، فما دام " العقل " هو المحكم في هذه القضية ، فعقل من ؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي وتجريد لا وجود له في عالم الواقع ! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر لكل منهم طريقته الخاصة في " تعقل " الأمور ،ولكل منهم "نوازعه " الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه ، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز علي أمور ويغفل غيرها من الأمور .
ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل .
وما نريد أن نتطرق لتقويم موقف تلك الفلسفة العقلانية من القضايا الأخري غير قضية الألوهية فقد يكون لها توفيقاتها في بعض جوابها الفكر البشري ، وقد تكون فائدتها الأساسية تنمية القدرة علي إدراك الكليات التي تحكم الجزئيات ، وتلك مباحث لا تبتغي في مثل بحثنا الحاضر .. ولكننا نشير إشارة موجزة هنا ، نعود إلي تفصيلها فيما بعد ، إلي أن هذه العقلانية تكاد تقف نفس الموقف من قضية أخري لا تقل خطورة في حياة الناس عن قضية الألوهية ، وهي قضية " منهج الحياة"  الذي ينبغي أن يسير عليه البشر فقد تخطبت تلك " الفلسفة " [8] في تلك المسألة من اقصي اليمين إلي أقصي الشمال فضلا عن كونها حولتها إلي أحلام طوباوية أو ذهنية لا علاقة لها بواقع الحياة ، ومن ثم لا أثر لها في واقع الحياة !
m    m    m

من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلي عصر " سيادة الدين "
وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلي النور ، ولكنه في الحقيقة دخل إلي ظلمات حالكة ليس فيها حتي ذلك " البريق" الذي تيمزت به الفلسفة الاغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقة لذلك البريق ، وعن كونه بريقا هاديا ام مضللا عن الطريق !
كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي ، واستمد منه اليقين والهدي 0- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصلية يبدع وينتج ، ويمد " الإنسان " بما يحتاج إليه في شئون " الخلافة " وعمارة الأرض
ولكن الكنيسة الأوروبية افسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف علي الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية علي الأرض ، وتخبطت في قضية الألوهية تخبطا من نوع جديد ، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم ، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاية ، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله ، وشريط لله في تدبير شئون الكون .
وفضلا عن ذلك أو ربما بسبب ذلك حجر علي العقل البشري أن يعمل وأن يفكر
فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن " معقولة ط ولا مستساغة . فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت ، وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالي ظل متفردا بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون مالا يحصي من الزمان ، ثم إذا هو فجأة- يوجد كائنا أخر ليكون شريكا له في الألوهية ومعينا له في تدبير الكون !!! تعالي الله عن ذلك علو كبيرا
ومن أجل كون هذا العبث " المقدس "! " الذي ابتدعته المجامع " المقدسة " ! وغير معقول ولا مستساغ ، فقد سخرت الكنيسة " العقل " في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة "فلسفية " مستساغة ( أو هم قالوا عنها إنها مستساغة !) وفي الوقت ذاته حجرت علي العقل أن يناقشها ، لئلا تجر المناقشة إلي القول بأنها غير معقولة علي الرغم من كل الصناعة " العقلية" التي وضعت فيها !
ومن ثم نشأت في الكفر الأوروبي تلك " المسلمات" أو العقائد المفروضة فرضا التي لا يجوز مناقشتها Dogmas  ،لا لأنها في حقيقتها من الأمورالتي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة ـ ولكن لأنها مناقضة للعقل ، ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين ، الذين زعموا لانفسهم حق صياغة العقائد وفرضها علي النسا بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين ، يجوز فيهم كل حتي إهدار الدم وإزهاق الأرواح كما مر بنا من شأن محاكم التفتيش التي قال عنه " ويلز" في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية ( ص 902 903 من الترجمة العربية )
" فأصبح قساوستها وأساقفتها علي التديج رجالا مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتيمة Dogma  وإجراءات مكررة وثابتة .. ونظرا لأن كثير ا منهم كانوا علي الأرجح يسرون الريبة في سلامة بينان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه ، كانوا لا يحتملون اسئلة ولا يتسامحون في مخالفة ، لا لأنهم علي ثقة من عقيدتهم ، بل كانوا غير واثقين فيها
" وقد تجلي في الكنيسة عندما وافي القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكلمه ، وقد تجعله أثر بعد عين ، فلم تكن تستشعر أي أطمئنان نفسي وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات فيما يقال عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن 
ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصاري علي الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية لم يكونوا يؤمنون بها في دخيله أنفسهم إلي درجة اليقين ، ماحدث من وفد نصاري نجران مع الرسول صلي الله عليه وسلم حين دعاهم بأمر ربه إلي المباهلة :
{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [سورة آل  3/61]
فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله صلي الله عليه وسمل حول بنوة عيس لله وألوهيته مع الله .. ولو كانوا علي يقين حاسم ما أمتنعوا !
وأيا كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر علي العقل .. وصنعت ذلك باسم " الدين " !
والدين الصحيح ليس في حاجة إلي شئ من ذلك الذي صنعته الكنيسة
حقيقة إ، في الدين الصحيح " مسلمات " لا تناقش ، تعتبر من أصول الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام :
" قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره [9]
وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه ، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي ، ويسلم بها تسليما ، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار .. وكان هذا كله واردا في " مسلمات "الدين الكنيسي ، ولا اعتراض عليه .

ولكن هناك فارقا أساسيا بين " مسلمات" الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخري التي كانت تجبر الناس عليها إجبارا وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها ، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها !
فالمدخل إلي هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف علي صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها انه هو الخالق وأنه علي كل شئ قدير ، والإيمان بالرسول المرسل e وصدقه وأمانته [10]، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكل هذه يدعي العقل دعوة صريحة إلي التفكير فيها ، والتأكد منها قبل الإيمان بها ، وخذ مثالا علي ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام :
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [سورة الأحقاف 46/4]
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/11]
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سورة سبأ 34/46]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [سورة المؤمنون 23/91]
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]
فإذا آمن الإنسان وهو مدعو للتفكير والتدبير وإعمال العقل ليؤمن بأن الله هو الخالق وهو علي كل شئ قدير ، وآمن بصدق الرسول المرسل  e ، وأمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه ، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته ، وطلب منه التسليم بها لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجئ من عنده . وهي في الوقت نفسه مما لا يملك العقل دليلا حقيقيا ينفيها .. فوجب عليه أن يسلم بها وقت آمن بمقدماتها التي توصله إلي التسليم بها .
هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح : أمور لا يملك العقل ان يستدل عليها من تلقاء نفسه ، ولا يملك في الوقت ذاته دليلا حقيقيا ينفيها ، ثم إنه لا يدعي إلي التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض .


" [1] " حدث فيما بين صدور الطبعة الأولى والطبعة الثانية من الكتاب حادث انفجار المفاعل النووى الروسى ، الذى تسربت منه الإشعاعات المدمرة . وتعرض لخطرها ملايين من البشر فى أوروبا . وهم فى حالة " سلم " لا حرب !
" [2] " رواه أحمد .
[3] أنظر تفصيلا لهذه القضية في كتاب ، مفاهيم ينبغي أن تصحح
[4] ص 279 من الطبعة الثامنة
[5] سنعود غلي تفصيل هذه النقطة عند بسيط وجه النظر الإسلامية في قضية العقل والعقلانية
[6] ص 33-34 من طبعة دار الهلال بالقاهرة سنة 1969
[7] ص 34 من المرجع السابق
[8] في هذه القضية في الحقيقة تحبطت كل الفلسفات كما سيأتي ذكره فيما بعد ، ولكن كل فلسفة كان لها في تخبطها مدخلها الخاص
[9] رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
[10] وهو بالنسبة للنصاري المسيح عيسي ابن مريم .