Rabu, 28 November 2012




الإنسانية
الإنسانية أو العالمية كما يدعونها أحيانا دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين ، ثم تختفى لتعود من جديد ! يا أخى ! كن إنسانى النزعة .. وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء .. دع الدين جانبا فهو أمر شخصى .. علاقة خاصة بينا لعبد والرب محلها القلب .. لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك فى الدين .. فإنه لا ينبغى للدين أن يفرق بين البشر .. بين الإخوة فى الإنسانية ! تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو ولون أو وطن أو دين !
دعوى براقة كما ترى .. يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التى تفرق بين البشر على الأرض . تدعوك لترفرف فى عالم النور .. تدعوك لتكون كبير القلب ، واسع الأفق ، كريم المشاعر .. تنظر بعين إنسانية ـ وتفكر بفكر عالمى ، وتعطى من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء ، بدافع الحب الإنسانى الكبير !
أى رفعة ، وأى سمو ، وأى نبل ، وأى عظمة فى القلب والفكر والشعور !
ولكن مهلا ! انتظر حتى يخفت الرنين الذى تحدثه الكلمات والعبارات وفتش عن الحقيقة بعيدا عن العواطف والانفعالات ، وانظر أين تجد هذه الشعارات مطبقة فى واقع الأرض ؟! هل لها رصيد حقيقى من الواقع أم أنها شعارات زائفة ترفع لأمر يراد ؟!
ثم انظر إلى تلك العبارة الماسونية " اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك " !
ألا ترى شبها بين هذه الدعوة وتلك ؟ أما ترى أنهما قريبتان ؟ بل شقيقتان ؟!
" اخلع عقيدتك على الباب (أى عند دخولك الماسونية) كما تخلع نعليك .. " وادخل بلا عقيدة .. فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدونك .. ليسخروك لمصالحهم !
" الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار " ..
والحمار الآدمى هو ذلك الذى خلع عقيدته على الباب كما يخلع نعليه .. ودخل ، حيث أريد له أن يدخل .. بلا دين ومن ثم بلا أخلاق !
وفى القديم ، حين كان الدين قويا لا يقوون على مواجهته ، لم يكونوا يجرؤون على التلفظ بمثل هذه العبارة ، بل كانوا ينافقون ليصلوا إلى أغراضهم من " إغواء " الآخرين ..
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [سورة البقرة 2/14]
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [سورة آل  3/72]
ولكنهم اليوم آمنون ، فلا حاجة بهم إلى التظاهر بالإيمان بما أنزل هل المؤمنين .. بل إنهم لينشرون الإلحاد اليوم بجسارة فى كل الأرض .. ولكنه بضاعة للتصدير فقط ! يصدرونها للأمميين لإغوائهم عن الدين ، ولكن لا يستخدمونها بين أنفسهم . فالهدف الأخير  من التخطيط كله هو محو كل دين لدى الأمميين ، لكى يبقى اليهود وحدهم فى الأرض أصحاب الدين ! وهم على جبلتهم لا يغيرونها .. يتظاهرون أمام الناس بشئ ، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون !
وهزأة اليوم هى هذه الدعوة : " اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك ! " فإذا صدقها الأمميون وخلعوا عقيدتهم كما يخلعون نعالهم ، فرك الشياطين أيديهم سرورا حين يخلو بعضهم إلى بعض ، قال بعضهم لبعض : إنا معكم ، ما نزال على دين الشياطين .. إنما نحن نهزأ بالأمميين !
والفارق بين دعوى الإنسانية ودعوى الماسونية ضئيل ..
الفارق أنه فى تعبير الماسونية الخشن المتوقح يوضع الدين جنبا إلى جنب مع النعال ، لأن المقبل على الماسونية لا يقبل عليها إلا وقد خلع دينه بالفعل أو أوشك على خلعه ، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه ، بل قد تكون منه موضع ترحيب ! فهى كلمه لتوكيد .. وقد تكون للتهديد ! تهديد من بقيت فى قلبه بقية خفية من بقايا الدين .. فليتنبه وليخلعها قبل الدخول !
أما فى دعوى الإنسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب ، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور ن أو قل إنه يبتلعه وهو أشبه بالمخدور .
ولكن هذا وذاك يدعوك فى النهاية أن تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين ! فإذا فعلت ذلك اجتالتك الشياطين!
m    m    m

ولكن أناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق ، فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التى تنطوى عليها . وقد لا يصدقون أصلا أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين فى الأرض لأمر يراد .
فلندق مؤقت أنها دعوى مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره ، ليلتقى بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذى يحب الخير للجميع ..
فلنصدق ذلك فى عالم المثل .. فى عالم الأحلام .. فما رصيد هذه الدعوى فى عالم الواقع ؟!
ما رصيدها فى العالم الذى تحتاجه القوميات من جانب ، والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب ؟
فلنأخذ مثالا واحد من العالم المعاصر .. منا لمعاملة التى يلقاها المسلمون فى كل مكان فى الأرض يقعون فيه فى حوزة غير المسلمين ، أو فى دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد ..
فلننظر إلى " الإنسانية " التى يعاملون بها و" السماحة " التى يقابلون بها ، " وسعة الصدر " و" حب الخير " الذى ينهال عليهم من كل مكان !
خذ مثال الحبشة ..
يبلغ المسلمون فيها 55% على الأقل من مجموع السكان وذلك قبل ضم إريتريا عنوة إليها ، وإريتريا كلها مسلمون ، فكيف تعاملهم الدولة المسيحية المتسلطة عليهم ؟
لا يوجد فى الدولة وزير مسلم واحد يمثل أغلبية السكان ! ولا موظف واحد من كبار الموظفين ! ومدارس الدولة لا تعلم القرآن لأبناء المسلمين ولا تلقنهم مبادئ دينهم " [1]" ، وحين يفتح المسلمون " كتاتيب " لتعليم القرآن لأبنائهم على نفقتهم الخاصة ، تظل الدولة تفرض عليها من الضرائب ما يثقل كاهلهم حتى يغلقوها ! " [2] " ويحرم عليهم أن يتلقوا أى معونات من المسلمين من الخارج ! " [3] " وإلى عهد غير بعيد كان المسلم الذى يستدين من مسيحى حبشى ويعجز عن وفاء دينه يسترق لدائنه ! ووقف هيلاسلاسى عام 1962 فى هيئة الأمم فألقى خطابا " ضافيا " أعلن فيه أنه فى خلال اثنى عشر عاما لن يكون فى الحبشة إلا دين واحد ! ولم يرتفع صوت واحد فى تلك " المؤسسة الإنسانية " يستنكر ذلك التصريح !
والفلبين كانت ذات يوم أرضا إسلامية فغزاها الصليبيون " [4] " وحكموها قهرا عن أصحابها ، فكيف عاملوا المسلمين فيها ؟
لقد ظلوا يطاردونهم ويخرجونهم من أرضهم وديارهم وأموالهم حتى حصروهم فى قطاع من أصل أرضهم ، ثم سموهم " متمردين " فاستباحوا لأنفسهم قتلهم ، قتالهم ، وتحريق مزارعهم ، بل تحريقهم هم أنفسهم شفاء للحقد الصليبى المتأصل فى نفوسهم ..ولا يتحرك واحد فى الأرض كلها ليرد البلاد عن المسلمين ، ويكف عدوان المعتدين !
والهند حكمها المسلمون ثمانية قرون فلم يكرهوا أهلها على الإسلام ، ولم يضطهدوهم وهم يعبدون البقر ويعبدون الأوثان ، فلما حكمها الهنود فانظر كيف يعاملون المسلمين :
لا تنقطع أخبار " الشغب " كما تسميه الدولة والصحافة .. وخلاصتها أن يهجم الهندوس على القرى الإسلامية فيحرقوها على أصحابها ويقتلوا منها من تطوله أيديهم .. فيحتج المسلمون ، ويخرجون لرد العدوان فتعتقلهم الشرطة بتهمة إثارة الشغب وتودعهم فى السجون ! هذا وحكومة الهند حكومة " علمانية " أى أنها لا تقيم حكمها على الدين ، ولا تتعرض لأصحاب الدين ! ومن سنوات غير بعيدة صرح نهرو تصريحا عجبا قال فيه إن تقرير المصير حق لكل الناس .. إلا فى كشمير ! ! ولم يستنكر ذلك أحد فى العالمين!
وفلسطين ظلت أربعة عشر قرنا من الزمان أرضا إسلامية .. ثم جاء اليهود ليقيموا عليها دولة يهودية .. ولم يستنكر أحد من " الإنسانيين " طرد السكان الأصليين وإجلاءهم عن أرضهم بالقنابل والمدافع ، بل يشق بطون الحوامل والتلهى بالتراهن على نوع الجنين كما فعلت العصابات اليهودية التى كان رأس إحداهما مناحم بيجن .. وإنما استنكرت من المسلمين أن يطالبوا بأرضهم ، وألا يخلوها عن طيب خاطر للغاصبين !
ويطول الأمر بنا لو رحنا نستعرض أحوال المسلمين الواقعين فى قبضة غير المسلمين ، أو الذين يتعرضون لعدوان غير المسلمين فى كل مكان فى الأرض .. فى روسيا الشيوعية التى قتلت ما يقرب من أربعة ملايين من المسلمين ، وفى يوغسلافيا التى قتلت ثلاثة أرباع مليون منهم ، وفى أفغانستان التى تستخدم فيها الأسلحة المحرمة " دوليا " و" قانونيا " و" إنسانيا ! " وفى أوغندا ، وفى تنزانيا ، وفى .. وفى .. وفى .. وفى..
فما بال " الإنسانيين " ؟ ما بالهم لا يتحركون ؟! ما بالهم لا يصرخون فى وجه الظلم الكافر الذى لا قلب له ولا ضمير ؟!
إنما توجه دعوى " الإنسانية " فقط ضد أصحاب الدين !
فمن كان متمسكا بدينه فهو " المتعصب " " ضيق الأفق "الذى يفرق بين البشر على أساس الدين ، ولا يتسع قلبه " للإنسانية " فيتعامل معها بلا حواجز فى القلب أو فى الفكر أو فى السلوك !
أو قل على وجه التحديد إن الذين يحاربون اليوم بدعوى " الإنسانية " هم المسلمون !
يحاربون بها من طريقين ، أو من أجل هدفين : الهدف الأول هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه ، الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به فى كل الأرض ، لكى تنبهم شخصيته وتتميع ؛ والهدف الثانى هو إزالة روح الجهاد من قلبه .. ليطمئن الأعداء ويستريحوا !!
فى الهدف الأول المستشرق النمساوى المعاصر " فون جرونيباوم Von Grunebaum " فى كتاب له يسمى " الإسلام الحديث " " [5]"  Modern Islam " إن الحاجز الذى يحجز المسلم عن " التغريب Westernization  " هو استعلاؤه بإيمانه ، وإنه لابد من تحطيم ذلك الحاجز لكى تتم عملية التغريب!
أرأيت ! إنه هدف مقصود لذاته .. ألا يشعر المسلم بالاستعلاء بالإيمان ! يراد له أن تذوب شخصيته وتتميع ، ولا تكون لها تلك السمة المميزة التى أرادها الله :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
إن أعداء الإسلام لن يستريحوا حتى يزيلوا ذلك التميز الذى يحسه المؤمن :
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة 2/217]
وتلك قضية قديمة عمرها الآن أكثر من أربعة عشر قرنا .. أى منذ وجد المجتمع الإسلامى فى المدينة .. ولكن وسائل القتال تتغير ، ومن بينها اليوم ما نسميه " الغزو الفكرى " ومن بين الغزو الفكرى هذه الدعوى .. دعوى الإنسانية !
فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق : يا أخى لا تعتزل الناس ! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة ، فتعامل مع الأسرة كفرد منها ، ولا تميز نفسك عنها ! وشارك فى النشاط " الإنسانى " و مظاهر الحضارة " الإنسانية " !
ولا نقول لهؤلاء : هل تعاملون أنتم المسلمين كأفراد من أسرتكم " الإنسانية " " العالمية "فتعطونهم حقهم بوصفهم أفرادا فى تلك الأسرة ، فلا تطاردونهم ، ولا تنبذونهم ، ولا تتعصبون ضدهم ، ولا تتجمعون على أذاهم ؟!
لا نقول لهم ذلك لأنه لا فائدة من جدالهم . ولكن نقول " شهد شاهد من أهلها " فهو غير متهم فيما يشهد به ! ذلك هو " توينبى " المؤرخ المعاصر المشهور ، وتعصبه ضد الإسلام والمسلمين أمر كذلك مشهور!
يقول فى محاضرة له باسم الإسلام والغرب والمستقبل بعد أن قسم العالم تجاه عملية " التغريب " إلى متحمسين بغير عقل " [6]" ، ومقلدين بلا تحفظ ، وبعد أن امتدح حركة كمال أتاتورك المقلدة للغرب :
" ويجب على المراقب الغربى أن يراعى حدود اللياقة ولا يسخر " " [7] " لأن ما يحاول (المقلدون) الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه إلى حالة كنا نحن منذ التقاء الغرب بالإسلام ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم . وها هم حاولوا ولو متأخرين إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربى .
" وعندما ندرك تماما هدفهم الذى رموا إليه لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة : هل يبرر هذا الهدف حقا الجهد الذى بذلوه فى صراعهم لبلوغه " " [8] " ؟!
" من المؤكد أننا لم نكن نحب التركى التقليدى المسلم الذى كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من عل على أانا فريسيون زناديق ! ويحمد الله على أنه لم يجعله مثلنا . وبما أن التركى التقليدى القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة ، حاولنا أن نحط من كبريائه بتصوير هذه الطينة الخاصة شيئا ممقوتا وسميناه " التركى النكرة " .. إلى أن استطعنا أخيرا أن نحطم سلاحه النفسى وحرضناه على القيام بهذه الثورة (المقلدة) التى استهلكها الآن أمام أعيننا .. " [9] " .
" والآن ، وبعد أن تغير التركى بتحريضنا ورقابتنا ، وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلا لنا ، وللشعوب الغربية من حوله ، الآن نحس نحن بالضيق والحرج ، بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق ، تماما كما شعر صموئيل عندما اعترف بنو إسرائيل بفظاظة غايتهم ورغبوا فى وجود ملك ..
" لذلك فإن شكوانا الجديدة من الأتراك فى هذا الظرف أمر أقل ما يقال فيه إنه غير لائق " [10] " ، وبإمكان التركى أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ فى نظرنا ..
" على كل حال ، قد يكون انتقادنا للأتراك فظا وغير لائق ، ولكن ليس فيه أى تحامل " [11] " ولا هو خارج عن الموضوع ، إذ ما الذى سيكسبه التراث الحضارى ، فى حالة عدم ذهاب جهود الأتراك سدى ؟ أى فى حالة نجاحهم فرضا النجاح المرجو ؟ وهذه النقطة تكشف حركة المقلدين عن نقطتى ضعفها الأصيلتين فيها :
" أولاهما : أن الحركة مقلدة متبعة ، وليست مخترعة ، لذا ففى حالة نجاحها جدلا لن تزيد إلا فى كمية المصنوعات التى تنتجها الآلة فى المجتمعات المقلدة ، بدل أن تطلق شيئا من الطاقة المبدعة فى النفس البشرية .
" وثانيهما : فى حالة النجاح الباهت المفترض هذا ، وهو أقصى ما يمكن للمقلدين الوصول إليه ، سيكون هناك خلاص مجرد خلاص لأقلية ضئيلة فى أى مجتمع تبنى طريقة التقليد ، لأن الغالبية لا تأمل فى التحول إلى أعضاء فى الطبقة الحاكمة للحضارة المقلدة ، ومال هذه الغالبية هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة المقلدة .
" كانت ملاحظة موسولينى ملاحظة حادة عندما قال : هناك شعوب بروليتارية " [12]"  مثلما هناك طبقات بروليتارية وأفراد بروليتاريون " [13] " .
تلك هى القضية ! إن تمسك المسلم بإسلامه شئ يغيظ أعداء الإسلام بصورة جنونية .. ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه (ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية) فإذا تميع بالفعل ، ولم تعد له سمته المميزة له ، احتقروه كما احتقرت أوروبا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم و" فرنجهم " و" غربهم " ! بينما يقول أحد المبشرين فى كتاب " الغارة فى العالم الإسلامى " إن أوروبا كانت تفزع من " الرجل المريض " (وهو مريض) لأن وراءه ثلثمائة مليون من البشر مستعدون أن يقاتلوا بإشارة من يده " [14] " وهذا النص الأخير يدخل بنا إلى النقطة الثانية أو الهدف الثانى من استخدام دعوى " الإنسانية " فى محاربة المسلمين .
إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه !
وقد مر بنا فى الفصل الماضى كلام المستشرق الكندى المعاصر " ولفرد كانتول سميث " الذى يقرر فيه أن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذى ظلت تزاوله عدة قرون من الفتح الإسلامى ، وأن هذا الفزع لا يدانيه شئ فى العصر الحديث ، وال فزع أوروبا من استيلاء الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا سنة 1948 !
وهذا هو المستشرق الأمريكى " روبرت بين Robert Payne يقول فى مقدمة كتابه السيف المقدس The Sacred Sword :
" إن لدينا أسبابا قوية لدراسة العرب والتعرف على طريقتهم . فقد غزوا الدنيا كلها من قبل . وقد يفعلونها مرة ثانية ! إن النار التى أشعلها محمد ما تزال تشتعل بقوة ، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء " !
ولنترك المستقبل لعلم الله .. فما ندرى ماذا يكون من  أمر المسلمين غدا . ولكنا ننظر إلى الحاضر ذاته فنلمح السبب فى فزع أعداء الإسلام من روح الجهاد الكامنة فيه ..
إن أوروبا لم تتضخم كما تضخمت اليوم ، ولم تصل إلى الرفاهية الناعمة التى تعيش فيها إلا باستعمار العالم الإسلامى ونهب خيراته واستعباد أهله وإخضاعهم لنفوذها . فماذا يكون إذا استيقظت فى المسلمين روح الجاد فطردوا ذلك الاستعمار بكل أنواعه اخفية والظاهرة ، العسكرى منها والسياسى والاقتصادى ، واستردوا سيادتهم على أرضهم وأرواحهم وأفكارهم وضمائرهم ؟!
ماذا يحدث لأوروبا لو تم ذلك ؟ ومن أين لها الرفاهية الناعمة التى تعيش فيها اليوم ، إذا احتفظ المسلمون بخيراتهم لأنفسهم ، أو باعوها لأوروبا بيعا حرا بالسعر الحقيقى الذى تستحقه فى التجارة الحرة المتكافئة ؟ ومن أين لها التضخم الذى تمارسه اليوم ، سواء التضخم العسكرى أو العلمى أو المادى ، إذا انحسرت مواردها وكسدت بضاعتها التى توزعها اليوم على " المتخلفين " وتربح فيها بغير حساب ؟!
كلا ! ما يحب أعداء الإسلام قط أن تستيقظ روح الجهاد الكامنة فيه ، ولو لم يتحقق شئ من كلام روبرت بين ، الذى يزعج به أعصاب الغرب ليشتدوا فى الضغط على المسلمين ولا يتيحوا لهم أى فرصة لنهوض .. أو على وجه التحديد لا يتيحوا لهم أى فرصة للرجوع إلى حقيقة الإسلام التى فقدوها بعملية " التغريب " !
ودعوى الإنسانية من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين .
يا أخى ! لقد تغيرت الدنيا ! لا نتكلم عن الجهاد ! أو إن كنت لابد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعى فحسب ! ولا تتكلم عنه إلا فى أضيق الحدود ! فهذا الذى يتناسب اليوم مع " الإنسانية المتحضرة " ! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت ! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة ! وهناك قانون دولى وهيئات دولية تنظر فى حقك وتحل قضاياك بالطرق " الدبلوماسية " ! فإذا فشلت تلك الهيئات فى رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادا ! .. فالجهاد قد مضى وقته ! إنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة !!
أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد ! هناك اليوم وسائل " إنسانية " لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت .. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدرس .. إياك إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة فى أفواه المتحضرين !
ولا نقول لهؤلاء : أين هى الهيئات الدولية فى قضية فلسطين ؟ وفى قضية الفلبين ؟ وفى قضية كشمير ؟ وفى قضية أفغانستان ؟ وفى كل قضية كان المسلمون طرفا فيها ؟ أين هى الحقوق التى ترد بالطرق الدولية أو العدوان الذى يصد ؟!
ولا نقول لهم : ما قيمة هذه الهيئات الدولية والقانون الدولى وكل الإجراءات الدولية ، إذا كان هذا القانون يعترف رسميا بأن هناك جبابرة خمسة فى الأرض هم الحق الشرعى ! ! أن يوقفوا أى إجراء لا يوافق أهواءهم ومطامعهم العدوانية مهما يكن عادلا فى ذاته عن طريق " الفيتو " (حق الاعتراض ) ؟!
لا نقول لهم ذلك لأنه ا فائدة من جدالهم ! إنما نقول لهم إن إسرائيل تضرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلسي الأمن عرض لحائط ، وتعلن فى تبجح وهى المعتدية دائما أنها لن تخضع لهذه القرارات ولن تلتزم بها ، ولا يتحرك " الإنسانيون " لتأديبها .. إنما يشهر سلاح ط الإنسانية " فى وجه المسلمين فقط حين يطالبون بحقهم المشروع!
m    m    m

الإسلام دين الله صريح غاية الصراحة ، حاسم كل الحسم ، لا يداور ولا يناور ، ولا يتاجر بالشعارات .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [سورة التغابن 64/2]
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر 39/9]
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [سورة فاطر 35/19-22]
ويقرر فى صراحة حاسمة أن ولاء المسلم هو لله ولرسوله وللمؤمنين ، ويحرم الولاء فيما وراء ذلك :
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا....} [سورة المائدة 5/55]
{لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل  3/28]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة 5/51]
ويقرر فى صراحة حاسمة كذلك أن الجهاد لنشر الدعوة ماض إلى يوم القيامة :
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
ولكنه لا يقاتل من أجل فرض عقيدته على الناس وهم كارهون . إنما يقاتل كما قلنا من قبل لإزالة القوى الجاهلية التى تمنع وصول الحق للناس دون حواجز نفسية أو حسية مادية ، ممثلة فى نظم جاهلية لها فى حس الناس ثقل " الأمر الواقع " وجيوش ودول تحمى تلك النظم الجاهلية وتعطيها ثقلها فى الأرض ، فإذا أزيلت الحواجز فلا إكراه فى الدين :
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ...} [سورة البقرة 2/256]
إنما يقام العدل الربانى ليستمتع به الناس ويعيشوا فى ظله ولو كانوا لا يعتنقون عقيدة الإسلام .
وقد فتح المسلمون مصر وكان سكانها على دين النصرانية ، فلم يكرههم السلمون على اعتناق الإسلام . ولو كان هناك إكراه ما بقى الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة !
إنما أقام المسلمون العدل الربانى كما أمرهم الله فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التى سلبهم إياها حكامهم الرومان وهم على نفس الدين ولكن على مذهب مخالف . فقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم فى المذهب فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان ،ولا يجدون ملجأ يلجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة . فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك . وقصة القبطى الذى ذهب إلى المدينة ليشكو إلى عمر بن الخطاب ضربة العصا التى وقعت على ظهر ابنه من ابن عمرو بن العاص شهيرة لا تحتاج إلى إعادة . ولكن دلالتها وضاحة ، فهذا القبطى الذى كان يتلقى سياط الرومان ولا يشكو ولا يثأر لكرامته المسلوبة ، يسافر هذه الرحلة الطويلة طلبا للعدل ، لأن الإسلام رد له كرامته فصار يستنكر الظلم ويطلب العدل ، ولأن الإسلام أوجد له ملجأ حقيقيا يستحقق له العدل فيه فطلبه هناك .
ومن أجل هذا يقاتل المسلمون يقاتل المسلمون ، لا لفرض عقيدتهم ،ولا للتوسع الاستعمارى ، ولا لسلب أقوات الناس والاستئثار بها لأنفسهم ، ولا لأى فائدة أرضية من التى تسعى الدول إليها ، ولكن قياما بأمر الله ، ونشرا لهذا العدل الربانى فى الأرض .
وفتح المسلمون الأندلس ، وظلوا هنالك ثمانية قرون .. فلم يفرضوا عقيدة الإسلام على نصارى الأندلس ، بل دخل منهم من دخل الإسلام حبا فيه وإيمانا بصدقه ، وبقى النصارى نصارى حتى ردوا للمسلمين الجميل بطردهم من الأندلس مع التعذيب والتنكيل والتشريد على أبشع صورة وعاها التاريخ . ونشر المسلمون النور فى الأندلس وغيرها من البلاد عن طريق مدارسها وجامعاتها وأساتذتها وكتبها وعلومها وحضارتها ، التى مرت شهادات الشاهدين بها من منصفى الغرب على قلتهم ! وكانت الأندلس هى الملاذ الآمن لليهود والنصارى على السواء ، يشعرون فيها بالأمن الكامل فى ظل الحكم الإسلامى ، بينما أوروبا كلها تضطهد اليهود وتنكل بهم ، وبينما النصارى المخالفون لمذهب الكنيسة يعيشون فى رعب دائم من الإرهاب .
وفتح المسلمون الهند ، وحكموها ثمانية قرون .. فلم يفرضوا العقيدة الإسلامية على الوثنيين الهنود ، بل تركوهم لعقائدهم مع أن فيها ملا يعقله عاقل ، من عبادة للبقر ، وتبرك بروثها وبولها .. وإنما فرضوا عليهم فقط أن يكفوا عن بعض عاداتهم الوحشية التى كانوا يمارسونها من دفن الأرملة حية مع زوجها المتوفى ، أو حرقها حية .. من أجل رفع هؤلاء الناس إلى درجة الآدمية فى بعض تصرفاتهم دون المساس بعقائدهم . وظل الهندوس محافظين على عقائدهم وتقاليدهم فى ظل الحكم الإسلامى حتى تسلموا حكم الهند بمساعدة الصليبيين الإنجليز ، فردوا الجميل للمسلمين بالعدوان المستمر عليهم وتحريق قراهم وتعمد الإثارة الدائمة لهم ، والتهييج الدائم لخواطرهم .
كذلك كان فتح المسلمين للأرض .. ومن أجل هذه المعانى الرفيعة أمرهم الله بالقتال لنشر الدعوة .. ومع ذلك فهم لا يبدأون بالقتال ، إنما يبدأون بعرض الإسلام ، فإن لم يقبل منهم فالجزية ، فإن لم تقبل فالقتال من أجل إخراج الناس من ظلمات الجاهلية وظلمها إلى عدل الإسلام وسماحته ، على النحو الذى تم به الأمر فى واقع التاريخ .
وللحرب مع ذلك تقاليد .. بل قل إنها أخلاقيات الإسلام فى كل شئ حتى مع المشركين المعاندين .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيشه يعلمه أخلاقيات الحرب فى الإسلام " اغزوا باسم الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا مثلوا ولا تقتلوا وليدا .. " الحديث " [15]" .
ثم إن أعطوا الأعداء عهدا أو موثقا فالله يأمرهم أن يوفوا بالعهد ولا ينقضوا الميثاق ن تحت أى ظرف من الظروف ولأى هدف من الأهداف ز فإن خافوا منهم خيانة فلينبذوا إليهم عهدهم علانية ولا يغدروا ولا يفاجئوا عدوهم بالقتال قبل انقضاء العهد :
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} [سورة النحل 16/91-94]
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} [سورة الأنفال 8/58]
ولقد كان معاوية قد أعطى عهدا للروم إلى أمد محدد ، ثم جاءته عيونه تخبره أن القوم يستغلون الهدنة للاستعداد للانقضاض على المسلمين ، فأراد أن يباغتهم ، فاستشار فأبى عليه مستشاروه ، وقالوا له إما أن تنبذ إليهم عهدهم على سواء وإما أن تنتظر إلى نهاية العهد ، والله ينصرك بالطاعة . فانتظر حتى نهاية العهد وانتصر بإذن الله .
ويروى التاريخ كيف غدر الصليبيون بعهدهم مع صلاح الدين وفاجئوا المسلمين الآمنين على بغتة فاحتموا بالمسجد فدخلوا عليهم المسجد وأعملوا فيهم القتل حتى غاصت الخيل إلى ركبها فى الدماء .. فلما دارت الدورة وانتصر صلاح الدين أبى أن ينتقم منهم سماحة ولم يغدر قط بميثاق واحد أعطاهم إياه .
وظل وفاء المسلمين بمواثيقهم فى السلم والحرب مضرب المثل خلال التاريخ ، اتباعا لتعاليم الإسلام ، وتخلقا بأخلاق لا إله إلا الله .
m    m    m

والإسلام صريح فى توجيه اتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية ، التميز بنظافة السمت ونظافة الأخلاق ونظافة السلوك ،والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا أو متعارض مع الإسلام ، حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ :
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل  3/139]
ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال ، وأن المنهج الذى يعيشون به هو المنهج الأعلى لأنه المنهج الربانى، والذى يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى لأنه منهج جاهلى . فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أى معنى من المعانى الأرضية التى تعتز بها الجاهلية وتستعلى بها على الناس . إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الربانى واتباعه ..
ومع ذلك كله فكيف يكون التعامل الإسلامى مع غير المسلمين ؟!
{لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [سورة الممتحنة 60/8]
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [سورة المائدة 5/5]
كما أنه ليس مقتضى التميز والاستعلاء هو " مخاصمة " كل ما يأتى من مصدر غير إسلامى ، إن كان شيئا نافعا فى ذاته ، ولم يكن متعارضا مع الإسلام ، فقد أخذ المسلمون الأوائل من الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية ما رأوه نافعا لهم ولا يتعارض مع عقيدتهم وأخلاقهم وأفكارهم وتصوراتهم الإسلامية . إنما مقتضى ذلك ألا يأخذوا من مصدر غير إسلامى أمرا يتصل بالعقيدة ـأو يتصل بالقيم أو يتصل بالشريعة أو يتصل بالأخلاق لأن مرجعهم فى ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله ، وهو حسبهم وفيه كل ما يحتاجون إليه فى هذه الأمور . أما " الأدوات " الحضارية ، وأما " العلم " وأما " التجارب " النافعة فلا خصومة معها ، ولا عداء ما دامت لا تصادم أصلا من أصول الإسلام .
m    m    m

ذلك هو الواقع الإسلامى .. وخلاصته أن " الإنسانية " الحقيقية " والسماحة " الحقيقة هى الإسلام !
فحيث تكون دعاوى الإنسانية والعالمية والتسامح فى كل النظم مجرد شعارات لا رصيد لها من الواقع ، فإنها فى الإسلام واقع حقيقى ، لا دعاوى ولا شعارات مرفوعة بغير رصيد .
والإسلام دين الله الحق ، وكل أمر فيه بما فى ذلك الجهاد لنشر الدعوة ، والتميز والاستعلاء بالإيمان ،واعتزال أدران الجاهلية وعدم المشاركة فيها هو أمر ربانى ، لم يبتدعه المسلمون من عند أنفسهم ، ولا قاموا به لصالح أنفسهم ، إنما تنفيذا الأمر لأمر الله ، سواء نالهم منه فى الأرض الغنم أو الغرم بالمقاييس البشرية المحدودة إنما يصنعونه ابتغاء مرضاة الله ، وطمعا فى الجزاء فى الآخرة .
ولكن غير المسلمين لا يؤمنون بذلك بطبيعة الحال ، فلا نناقشهم بمنطق الإيمان الذى لا يلزمهم . بل نفترض جدلا أن كل النظم ذات حق متساو فى الوجود وفى الانتشار فى الأرض .. فلننظر فى الواقع التاريخى نظرة " علمية " " موضوعية " " مجردة " . أى النظم مارس حقه فى الوجود وفى الانتشار فى الأرض بروح إنسانية حقيقية ، وأيها مارس الوجود والانتشار بسلوك خال من القيم الإنسانية هابط إلى الحضيض ؟!
فمن كان فى شك فلينظر إلى الواقع المعاصر وما يتم فيه من ألوان من البربرية الوحشية لا تخطر على البال ، وألوان من نقض المواثيق لا تخطر على البال ، وألوان من العبث بكرامات الشعوب والاستخفاف " بحقوق الإنسان " لا تخطر على البال !
وذلك رغم كل الشعارات المرفوعة ، والقيم المسطرة فى ديباجات الدساتير والمعاهدات والمواثيق !
أما الإسلام فلا يداور ولا يناور ، ولا يرفع الشعارات البراقة بلا رصيد . إنما هو رغم الصراحة الحاسمة التى يعالج بها كل أمر ، هو الذى يطبق الروح الإنسانية الحقيقية والتسامح الحقيقى .. ولا عجب فى ذلك ، فإنما هو المنهج الربانى الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الصراط المستقيم الذى لا عوج فيه .
m    m    m

الإلحاد
الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله ، والقول بأن الكون وجد بلا خالق أو أن المادة الأزلية أبدية ،وهى الخالق والمخلوق فى ذات الوقت بدعة جديدة فى الضلالة فيما أحسب ، لم توجد من قبل فى جاهليات التاريخ السابقة ، ومن المؤكد على أى حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذى تمارسه الجاهلية المعاصرة ، فى أى فترة سابقة من فترات التاريخ .
وبعض الناس يشير إلى الآية الكريمة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [سورة الجاثية 45/24] ويستدلون منها على أنه وجد فى الجاهلية العربية (وبالتالى فى غيرها ) من ينكر وجود الله ، وأن هؤلاء الدهريين كما أطلق عليهم هم صنو القائلين بالطبيعة ، المنكرين لوجود الله .
والآية فيما أرى لا تعطى هذه الدلالة بصورة قاطعة ، فإنها تقطع فقط بأن القوم المشار إليهم ينكرون البعث ، ولكنها لا تقطع بأنهم ينكرون وجود الله .
وما لم يثبت من مصدر يقينى " [16] " أنه وجد فى العرب أو فى غيرهم من الأمم من قبل من ينكر وجود الله ، فأغلب الظن عندى أن هؤلاء القوم المشار إليهم فى الآية هم الذين يؤمنون بوجود الله وبأنه هو الخالق المدبر ثم ينكرون قدرته سبحانه وتعالى على بعث الموتى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان 31/25]
{قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ (89)} [سورة المؤمنون 23/84-89]
ومع إقرارهم بذلك كله فقد كانوا ينكرون البعث إنكارا شديدا ويعجبون ممن يقول به : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)} [سورة سبأ 34/7-8]
فتكذيبهم بالبعث لم يكن ناشئا من إنكارهم لوجود الله ، إنما من إنكارهم قدرته سبحانه وتعالى على إحياء " الموتى بعد ان بليت أجسادهم وضلوا فى الأرض : {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة السجدة 32/10]
ولذلك كان الجدل معهم فى هذا الموضوع يدور كله حول معنى واحد هو أن الذى خلق الخلق من العدم أول مرة قادر على أن ينشئهم مرة أخرى :
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [سورة يــس 36/78-83]
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)} [سورة الإسراء 17/98-99]
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [سورة الروم 30/27]
والذين أطلق عليهم اسم " الدهريين " قوم ينكرون البعث إنكارا مطلقا ، ويقولون إن هى إلا حياتنا الدنيا ، أى لا توجد حياة أخرى بعدها . يموت منا من يموت ويحيا منا من يحيا ، وما يهلكنا إلا مرور الزمن . فكلما مر الزمن ماتت نفوس .. ولكن لا بعث وراء ذلك ولا حياة . أما إنكارهم لوجود الله فاستدلال لا تدل عليه الآية دلالة صريحة ولا دلالة لازمة . والقوم إنما نسبوا إلى الدهر أى إلى مرور الزمن أنه هو الذى يهلكهم ، ولكنهم لم يقولوا إن الدهر هو الذى خلقهم أو هو الذى منحهم الحياة . أى أنهم لم يتخذوه إلها بدلا من الله ! وحتى لو فرضنا جدلا بغير دليل يقينى أنهم أنكروا وجود الله ، فليس هناك من يقول إنهم كانوا كثرة يحسب لها حساب نولا إنهم كانوا هم الصورة الغالبة للجاهلية . أما إنكار وجود الله على النحو الذى تتبجح به الجاهلية المعاصرة ، وبالسعة التى تمارس بها ذلك التبجح ، فأمر غير مسبوق فى تاريخ البشرية ..
ذلك ان الفكرة بذاتها تعرف وجود الله ، وتتجه إليه اتجاها فطريا بالعبادة على نحو من الأنحاء ..ولو ضلت الطريق ! ولم يكن الضلال الغالب على البشرية فى جاهلياتها هو إنكار وجود الله ، إنما كان الضلال الغالب هو الشرك ، وتصور الله على غير حقيقته . فقد يتصورون أنه هو الشمس أو هو القمر أو هو النجم أو ما إلى ذلك من المخلوقات . {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [سورة فصلت 41/37]
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)} [سورة النجم 53/49]
أو يتصورونه آلهة متعددة متعادلة فى القوة والسطوة كإله الخير وإله الشر عند الفرس ، يتنازعان أبدا ولا يغلب أحدهما الآخر ، أو غير متعادلة كما كان الرومان والإغريق يؤمنون بوجود إله كبير هو رب الأرباب ، ودونه آلهة شتى ، وكما كان العرب فى جاهليتهم يؤمنون بأن الله هو رب الأرباب الخالق الرازق المهيمن ، وثمة آلهة أخرى يشاركونه فى بعض الأمر فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى :
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر 39/3]
ولم يبعث الله رسولا ولا نبيا ليقول للناس إن هناك إلها ، فالفطرة تعرف ذلك بغير رسول ! ولا ليقول لهم إن هناك إلها فاعبدوه . فالفطرة تتجه بالعبادة تلقائيا إلى الإله الذى تعتقد بوجوده بغير رسول ! فقد أودع الله ذلك كله فى الفطرة والبشر ما زالوا فى عالم الذر :
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
إنما الذى أرسل به الرسل جميعا هو " التوحيد " .
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد 47/19]
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة هود 11/61]
وذلك لتصحيح مسار العقيدة وتقويم الفطرة مما تقع فيه من الضلال ، لا لإنشاء العقيدة ابتداء وإثبات وجود الله :
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30]
نعم .. تعرف الفطرة بذاتها وجود الله ، وتتجه إليه بالعبادة منذ أن أخذ الله من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم ..
ولا ندرى نحن كيف تم ذلك ..
ولكنا نلحظ من أحوال الفطرة مصداق تلك الحقيقة .
هنا منافذ فى الفطرة تتلقى إيقاعات من الكون والحياة ، فتستيقظ من غفلتها ، إن كانت غافلة ! فتروح تتساءل : ما وراء ذلك ؟ ومن وراء ذلك ؟ .. فتهتدى إلى وجود اله ثم تتصوره على حقيقته ، فردا صمدا خالقا رازقا مدبرا مهيمنا .. فتعبده العبادة الحقة وتخلص له العبادة ، أو تضل فتتصوره على غير حقيقته ، وتشرك معه آلهة أخرى . ولكنها فى الحالين تعرف وجوده ، وتتوجه إليه بالعبادة على نحو  من الأنحاء .
هناك بادئ ذى بدء هذا الكون الهائل ، الذى يروع الحس بضخامته المعجزة .
وبغير الأدوات التى استحدثها الإنسان لتزيد بصره حدة ، وتجعله ينفذ فى آماد الكون المتطاولة التى لا تنفذ إليها النظرة بالعين المجردة ، كان الإنسان يحس  بضخامة الكون وسعته المعجزة ، من رؤية السماء التى لا يحيط بها بصره ، ورؤية الشمس والقمر ، ورؤية العدد الهائل من النجوم التى يعجز عن إحصائها .. وكان يروعه ذلك كله ويسترعى انتباهه فيظل يفكر فيه ، ويتساءل .. أو تتساءل فطرته ، من وراء ذلك ؟ وماذا وراء ذلك .. فيهتدى إلى الله الحق ن أو يضل فيتصور الشمس هى الله ، أو القمر هو الله ، أو النجم هو الله .. أو أنها جميعا آلهة فى وقت واحد . ولكنه فى كل حالة يعلم أن هناك خالقا لهذا الكون الهائل ، فيتخيله على صورة من الصور ، ويعبده لونا من العبادة ، يحتوى على ركوع وسجود ، وشعائر أخرى والتزامات .
وحين مد الإنسان ببصره إلى داخل الكون من خلال المناظير رأى عجبا يأخذ بالألباب !
رأى أن الشمس كلها والمجموعة الشمسية من حولها ليست إلا " نجما " واحدا من نجوم لا تحصى فى مجموعة واحدة تعرف " بالمجرة " وأن المجرة التى فيها شمسنا ليست إلا واحدة من مجرات أخرى غيرها فى الكون تعد بالملايين ! كلها ذات نجوم تعد بالملايين !
ورأى أن هناك نجوما تبعد عنا عدة آلاف ..لا من الأميال .. ولا من ألوف الأميال (أى ألوف الألوف) ولكن من السنين الضوئية ! أى المسافة التى يقطعها الضوء فى سنة كاملة وهى رقم فلكى لا يتعامل به البشر على سطح الأرض .
186000 × 60 × 60 × 24 × 365.25 = 5.869.713.600.000 ميلا تقريبا .
ورأى من حيث الحجم أن هناك نجوما تبلغ أضعاف حجم شمسنا ، التى لا نراها بطبيعة الحال فى حجمها الطبيعى لأنها تبعد عنا حوالى 93 مليون ميل ، وأن هذه النجوم تبدو لنا مجرد نقط فى الفضاء رغم حجمها الهائل ذلك ، لأن مسافتها منا شئ مذهل ، لا يقاس إليه بعد شمسنا منا .. وأن المسافة بين نجم ونجم فى هذا الفضاء لا يكاد يتصورها العقل .. فما بال الفضاء كله ؟ كم حجمه ؟ ما أبعاده ؟ هل هو منته أم ممتد بلا انتهاء !
وعلم من طريق المناظير أن الكون المرئى كله إن هو إلا جزء من الكون فحسب ، وأن نسبته إلى الكل أمر لا يمكن تحدده ، لأنه لم يمكن بعد تحديد مقدار ذلك " الكل " .. لأنه كلما اختراع الإنسان آلة أبعد .. بدا له من الكون مزيد لم يكن يراه من قبل ، ولم يكن يحسب أنه كائن فى الوجود !
ومع هذه الضخامة المعجزة يلحظ الحس البشرى دقة معجزة كذلك .
ومن قبل أن يتوصل الإنسان إلى الأجهزة الدقيقة البالغة الدقة ليقيس بها مقدار الدقة فى هذا الكون ، كان يرى ما يروع حسه ويستغرق انتباهه .
كان يرى الدقة العجيبة فى تتابع الليل والنهار بمواعيد مضبوطة على مدار العام ، والدقة العجيبة فى مسار الظل وتغيره يوما عن يوم حتى يعود إلى نفس مكانه بعد عام كامل من كل يوم .. ومن هنا نبتت فكرة المزولة ثم فكرة الساعة وكان يرى الدقة فى مسار القمر وتغير أوجهه ليلة بعد ليلة حتى يعود إلى نفس وضعه بعد شهر كامل من كل يوم يرصد فيه .. وكان يرى دورة النبات من البذرة المغمورة فى الأرض ، إلى الشطأ الذى يخرج منها ، إلى الساق والأغصان والأوراق ، إلى الزهرة والثمرة والبذرة فى نهاية المطاف .. وكان يرى الزهرة الملونة تتكون من خيوط دقيقة ومساحات دقيقة من اللون يعجز الرسام الماهر أن يرسمها بهذه الدقة ، ويعجز عن تكرارها بنفس الصورة فى رسم آخر فضلا عن ألوف وملايين ؛ ولكنها فى الطبيعة تبرز ملونة بهذه الدقة فى كل زهرة دون جهد مبذول . ويرى ريشة الطائر الملون مكونة من عدد لا يحصى من الخطوط والخيوط ن كل يحمل نصيبا دقيقا من اللون يعجز الرسام أن يرسم مثله فى دقته ، ثم يحدث من تجمعها فى الريشة ذك المنظر البهيج الذى يروع النظر ويروع الحس . وكان يرى دقة دخول الليل فى النهار حتى يتلاشى الضوء ، ودقة دخول النهار فى الليل حتى يتلاشى الظلام .. وكان يرى أشياء وأشياء توقظ فطرته إن كانت غافلة يتساءل : هل يمكن أن توجد هذه الدقة العجيبة كلها بغير موجد ؟ ثم يروح يتطلع إلى الموجد ، فيهتدى إلى أنه حقيقة لا تدركها الأبصار فيؤمن بالله على بصيرة ، ويعبده على بصيرة ، أو يضل فيتصور أنه الشمس أو القمر أو النجوم أو الروح الساكنة فى التمثال الذى ينحته بيديه .. ولكنه فى كل حال يعلم أنه لابد من خالق خلق هذا الوجود بتلك الدقة التى يلحظها فى تلك الكائنات حوله .
ثم مد الإنسان ببصره إلى داخل هذا الكون المعجز عن طريق الأدوات التى استحدثها فرأى عجبا لم يكن يخطر له على بال ! رأى هذا الكون العجيب كله مكونا من ذرات متناهية فى الدقة لا تراها العين المجردة ، إنما ترسمها الأدوات التى استحدثها الإنسان ، فى صورة شمس تدور حولها كواكب على ذات النمط الذى تتكون منه المجموعة الشمسية ولكن فى دقة متناهية لا يدركها الحس . وفى كل قطعة صغيرة من المادة ملايين وملايين من هذه الذرات متراكبا بعضها مع بعض ، ومشدودا بعضها إلى بعض ، بذات القوة التى تمسك الكون كله بعضه إلى بعض ، وتسمح له بالحركة الدائبة دون أن يصطدم أو يتناثر ، والتى أطلق عليها اسم " قوة الجاذبية " .
بل رأى أعجب من ذلك حين فتت الذرة وأطلق منها " الطاقة " .
إن الذرة ليست " مادة " مصمتة كما كان يتخيل أول الأمر ، وليست هى الصورة النهائية " لمادة " ولكنها جسيمات كهربية موجبة وسالبة ومتعادلة ، يمكن تفتيتها وتفكيكها فتتحول إلى طاقة ، والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة . ولا يوجد ذلك الحاجز الذى كان يتخيله بين المادة وبين الطاقة .. والكون فى النهاية طاقة تأخذ صورا شتى . صورة متكتلة فى هيئة المادة ، وصورة منطلقة فى هيئة شعاع ضوئى ، وصورة منطلقة فى هيئة جاذبية مغناطيسية ، أو مغناطيسية كهربية تصير الألباب !
ورأى من بين ما رأى عجبا عاجبا فى تكوين الجنين ونموه المتتابع حتى يصبح خلقا تام التكوين .
فهو فى أصله بويضة ملقحة وحيدة الخلية ، تتكاثر عن طريق الانقسام المستمر إلى خلايا جديدة متشابهة فى التكوين ولكنها متخصصة . وإلى أن تكون مضغة لا يظهر للعين ذلك التخصص . ولكن فى وقت معين مقدر محدد ، تصدر لكل خلية أوامر خفية . فهذه الخلية يصدر لها أمر أن تكون هى الأنف ، وتلك الخلية يصدر لها أمر أن تكون هى العين ، وثالثة يصدر لها الأمر أن تكون هى القلب ز ثم تتكاثر كل منها على النحو المقدور لها فيتكون من تكاثرها أنف وعين وقلب وبقية الأعضاء ..
ثم هناك " الجينات " أو " المورثات " متناهية فى الصغر كالذرات .. عجيبة كل العجب فى شأنها كله .
فكل جنس من أجناس الكائنات له عدد محدد من " الكروموسومات " حاملات الصفات الوراثية لا يتجاوزها فى كل فرد من أفراده ، تحدد له خصائصه كلها من أعضاء وقدرات وأعمال ، فالكلب له عدد من " الكروموسومات " معين ، والحصان له عدد معين والقرد له عدد معين .. والإنسان هو أكثرها عددا .. ولا يتجاوز كل جنس حدوده إلى جنس آخر ، محكوما بعدد هذه الكروموسومات وما تحمله فى داخلها من الخصائص .. فلا يستطيع القرد أن يكون غنمانا فى يوم من الأيام ولا فى جيل من الأجيال !
ثم هذا الإنسان ، أعجب مخلوقات الله واشدها إعجازا ، وإن كان الخلق كله معجزا بالنسبة إلينا ، وهينا بالنسبة للخالق الذى يقول للشئ كن فيكون ، ولا يتعب فى تشكيله وتكوينه كما تتعب المخلوقات !
عدد " الكروموسومات " بالنسبة للإنسان كله واحد .. ولكن الإنسان أكثر كائنات الخلق تعددا فى صوره وأشكاله . فهذا قصير وهذا طويل ، وهذا أبيض وهذا أسود ، وهذا أزرق العينين وهذا داكن .. وهذا عبقرى وهذا خامل .. وهذا موهوب فى ألدب وهذا موهوب فى الرياضيات .. وهذا جلد صبور وهذا مستثار حائر .. كل إنسان تركيبة وحده ، وهو مكون من ذات العناصر .. من ذات العدد من حلاملات الصفات الوراثية التى يحملها "الإنسان" ولكنها فى كل فرد غيرها فى الفرد الآخر ، فلا يكاد يتماثل اثنان فى ملايين البشر فى الجيل  الواحد ولا فى جميع الأجيال . بل تصل الدقة فى بصمات الأصابع إلى حد تصبح معه من وسائل التعرف لأنها لا تتكرر فى فردين اثنين من بين ملايين الأفراد !
كيف يحدث ذلك كله ؟ كيف تحدث هذه العجائب التى لا ينقضى العجب منها سواء فى تكوين المادة أو فى تكوين الكون كله ، أو فى المادة الحية من أول الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان ، أو التناسق و" التوازن " فى بنية الكون ، وخاصة ذلك التوازن الكائن فى تلك المجموعة الشمسية التى منها اضرنا ، والتى يتبدى التنسيق الدقيق فيها بحيث لو اختل عنصر واحد منها ما أمكنت الحياة على صورتها الحالية ولا أمكن استمرار الحياة .. لو اقتربت الأرض من الشمس أكثر تحترق الكائنات الحية ولو ابتعدت أكثر تهلك من الصقيع .. لو اقترب القمر من الأرض أكثر لارتفع المد حتى يغرق كل الأرض . ولو زاد الأكسجين لاشتعلت الكائنات ولو قل لم تجد كفايتها للحياة .
كيف يحدث ذلك كله ؟ من غير خالق مدبر حكيم ؟
m    m    m

ويتلقى الحس البشرى إيقاعات من الحياة من حوله . الحياة ذاتها إعجاز ..
كيف تكونت الحياة أول مرة من الموات ؟
ثم كيف تعددت على هذا النحو الذى نراه ، من نبات وحيوان وإنسان ؟ ثم فى أنواع النبات المختلفة وأنواع الحيوان المختلفة وأشكال الإنسان المختلفة ؟
ما الحياة ؟ وما سرها ؟ ومن واهبها ؟ وكيف يهبها ؟
كيف " ينمو " الكائن الحى وتتغير أحواله من طور إلى طور .. ؟
والكائن البشرى بالذات ..المعجز فى كل تفصيلاته ..كيف تتم عمليات النمو المختلفة فيه .. كيف يتعلم الكلام ؟
إن الكلام ذاته معجزة لا يحيط بها العقل البشرى ! كيف تم للبشر أن ينطقوا بلغة ذات رموز وتراكيب ؟ كيف تأتى للأصوات المبهمة أن تكون ألفاظا محددة ، وكيف تم للألفاظ أن تعبر عن المعانى ..وكيف تعددت اللغات التى تعبر عن ذات المعانى ما بين شعب من البشر وشعب ، وكلهم " نوعه " واحد ، يعانى تجربة واحدة هى تجربة الحياة فى هذه الأرض ؟!
وهذه المعانى .. هذه الأفكار المجردة .. كيف تمت ؟
وعملية التفكير ذاتها ..وعملية التذكر .. كيف تتم هذه وتلك ؟
وكيف " ينمو " هذا كله مع نمو الطفل .. كيف تنمو قدرته على الكلام ، وقدرته على التفكير والتذكر؟
وكيف اختص " الإنسان " دون مقدمات من الكائنات الأدنى منه بخاصية التفكير المجرد ، وخاصية الرمز للأفكار بالكلمات ذات الأصوات والحروف والمقاطع ، وخاصة الإبداع المادى والمعنوى ، فصارت له حضارة وصار له تاريخ ؟!
ثم .. ذلك الجانب الآخر من " الحياة " الذى يسمى " الموت "
ما سره ؟ وكيف يحدث ؟ من الذى يملكه ؟
إن الطفل لفرط حيويته يتخيل الوجود كله " حيا " مثله .. ويتخيل أن الحياة هى الأمر الطبيعى لكل الأشياء .. فيتعامل مع اللعبة التى يلعب بها ، كما يتعامل مع الباب والنافذة والكرسى والعصا على أنها كائنات حية ، تفهم عنه لغته التى لم تتبلور بعد ، وتتجاوب معه وإن لم تنطق بحرف !
ثم ينمو إدراكه ويعرف بطبيعة الحال أن هناك أحياء حقيقيين ، وأشياء أخرى لا حياة فيها ، كان هو يخلع الحياة عليها فى طوره السابق ، واليوم يعلم أنها لا تتحرك من ذات نفسها ولا تأكل ولا تشرب ولا تتغير حالها كما تتغير أحوال الأحياء ، ولكنه من فرط حيويته لا يزال يخلع عليها الحياة وهو عالم بأنها غير حية فى حقيقتها ، ويكلمها ويتخيل أنها ترد عليه ، ويضربها أو يربت عليها ، ويتخيل أنها تتألم وتبكى أو تسر وتفرح ، كما يتخيل الشاعر فيما بعد وهو يكلم الأطلال ويستوحيها ويناجى " الطبيعة " ويتخيل أنها ترد عليه !
ثم ينضج فى يوم من الأيام حتى يدرك إدراكا لا لبس فيه أن هناك فارقا حاسما بين الأحياء وغير الأحياء من الكائنات ،ولكنه بعد يفترض أن الحياة دائمة فى الأحياء كما أن الجمود دائم فى الجوامد من الأشياء .
ولكنه ذات يوم يفاجأ بحقيقة الموت ، وبأن " الحياة " ليست دائمة عما كان يظن . ذلك حين يموت أمامه كائن حى يعرفه ، سواء كان القطة التى كان يلهو بها ن أو العصفور الذى يراه يقفز فوق الأغصان ن أو قريبا له كان يحبه ويتعلق به .. وعندئذ تفعل المفاجأة فعلها فى نفسه ، فتهزه من أعماقه وتثير الأسى فى قلبه .. ويظل التأثر بالموت يصاحبه كلما جد له داع من دواعيه .. حتى يأخذ دوره فى الركب الراحل عن الحياة ..
وتظل الظاهرتان معا ، ظاهرة الموت وظاهرة الحياة ، تهزان كيانه ، وتبعثانه يتساءل : من وراء ذلك ؟ من وراء الحياة يخلقها بكل مظاهرها ، ومن وراء الموت الذى ينهى الحياة ويقف دفعتها عن السريان ؟!  ويهتدى فيعرف الله على حقيقته ن وأنه هو المحيى المميت ، أو يضل فينسب الحياة إلى مصدر والموت إلى مصدر آخر كما يفعل " الدهريون " ، أو ينسبهما معا إلى آلهة أخرى غير الله . وكلنه يعلم على الأقل أن واهب الحياة هو خالق الخلق فيتعبده ويترضاه .
m    m    m

ويتلقى الحس البشرى إيقاعات كذلك من جريان الأحداث من حوله .
فهذا الوجود حوله ليس ساكنا فى أى حالة من حالاته .
فهناك الليل والنهار حركة يومية دائبة تنقل الأشياء كلها منا لنور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور ، وهناك دورة الفلك حركة سنوية دائمة تنقل الأشياء كلها من الربيع إلى الصيف ، ومن الصيف إلى الخريف ومن الخريف إلى الشتاء ومن الشتاء إل الربيع ، مع ما يصحب ذلك من اختلاف مستمر فى الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة واخضرار الزرع وجفافه وإيناعه وإثماره ونضجه وسقوطه ، واختلاف مستمر فى نشاط الإنسان وأحواله بما يناسب الجو وأحواله والعمل وأحواله .
وهناك حركة الحياة والموت فى الأحياء لا بوصفها " ظاهرة " ولكن بوصفها حركة تنتج عنها أحداث . هذا يولد وهذا يموت ، وهذا يكون صغيرا فينمو ، وصحيحا فيمرض أو مريضا فيصح . وهذا غنى فيفتقر أو فقير فيغنى . وتدول دول وتولد أخرى ، وتحدث حروب وسلم ، وهزيمة ونصر ، ورفع فى مكانة الناس وخفض ، وتقدم وتأخر ، وعز وذل ..
وتشد الأحداث انتباه الناس وتهزهم ، فيروحون يتساءلون : هل هناك " رابط " بين الأحداث ؟ وهل هناك " نظام " ؟ أم إنها تحدث كيفما اتفق ؟ وهل وراءها غاية أم يسير الوجود كله بلا هدف ولا غاية ؟ وما الغاية إن اكن هناك ؟ ومن صاحب الغاية ؟ ومن يدبر الأحداث ؟ ويهتدى الإنسان إلى الحقيقة ، فيعلم أن مدبر الأحداث هو خالق الكون ، وأنه يجرى الأحداث بمشيئته وقدره ، وأن له حكمة من وراء ذلك يعلمها البشر أحيانا ويجهلونها أحيانا .. أو يضل فلا يعرف الغاية ولا يعرف الحكمة ويحسب الأمور تجرى خبط عشواء .. ولكنه فى كل حالة يعلم أن هناك مشيئة تجرى بمقتضاها الأحداث ن وأنها ليست مشيئة البشر إنما مشيئة كائن أعلى من البشر ، فيشعر نحوه بالرهبة وقد يشعر نحوه بالإجلال ..
m    m    m

ويتلقى حس الإنسان إيقاعات " ذاتية " دائمة من شعوره الدائم بالعجز .. يولد الطفل عاجزا تمام العجز لا يقدر على شئ .. ولولا رعاية الذين يحيطونه وإمدادهم له بالغذاء وقضاؤهم له حاجاته ما استطاع أن يعيش . رويدا رويدا يقدر على شئ من الحركة وهو محمول فى حضن والديه أو المكلفين برعايته ، حتى يستطيع فى وقت من الأوقات أن يجلس مستقلا بعض الشئ . وفى اللحظة التى " يقدر " فيها على الجلوس يحس " بالعجز " عن المشى ! ويجاهد حتى يتمكن أخيرا من الحبو على الأرض .
وفى اللحظة التى يقدر فيها على الحبو يحس بالرغبة فى الوقوف والعجز عن تحقيق تلك الرغبة ! وفى مرحلة تالية يتمكن من الوقوف ولكنه يحاول المشى فيقع على الأرض ويحس بالعجز عن تحقيق ما يريد .. وتمضى الأيام والسنون فيمشى ويجرى ويخرج إلى الطريق ويتعلم العلم ويحس " بالقدرة " على أشياء كثيرة لم يكن يقدر عليها من قبل ..
فهل تنقضى رغباته ؟ وهل يكف عن الشعور بالعجز ؟
كلا ! إنه هكذا ركب فى طبيعته .. كلما حقق حلما راح يشتاق جديدا ، ولم يقنع بما وصل إلى تحقيقه بالفعل ، حتى حين ركب الصاروخ ووصل إلى القمر ونزل على سطحه .. حتى حين سيطر على كثير من شئون البيئة من حوله ونظمها حسبما يريد .. حتى حين اخترع من الآلات ما صار يحقق فى جزء من الثانية ما كان يستغرق منه الساعات والأيام والشهور ولا يحكم تنفيذه .. حتى حين وصل إلى ذلك كله فهل رضيت نفسه ، وقال : لقد حققت وجودى كاملا فما أرغب المزيد ؟!
كلا ! إنه يريد فى حقيقة الأمر شيئا لا يقدر عليه ، ويحس " بالعجز " الدائم عن تحقيقه ، يريد أن يسيطر على الكون . يريد أن يقول للشئ كن فيكون !
ويعلم الإنسان فى دخيلة نفسه أنه عاجز عن تحقيق ذلك . وأنه مهما أوتى من القدرة والسيطرة على بعض جوانب الوجود ، فإن بينه وبين السيطرة الحقيقية التى يحلم بها أمدا لا يمكن بلوغه ، لأن مدى قدرته محدود بحدود ، ومدى عمره محدود بحدود ، ومدى تمتعه فى عمره المحدود بالصحة والقوة والنشاط والقدرة محدود بحدود !
وهكذا يشعر الإنسان بالعجز كلما شعر بالقدرة ! ولا يصفو له قط الشعور بالقدرة الكاملة التى يحكم بها فى كل مراحل عمره ، فضلا عن ـأنواع العجز التى يعلم أنها مفروضة عليه لا محالة ، ومن بينها الموت الذى يعجزه عن الخلود !
ومن شعور الإنسان بالعجز الدائم الذى يلاحقه حتى آخر لحظة من حياته يلتفت الحس البشرى إلى الكائن لا يعجزه شئ فى السماوات ولا فى الأرض !
كل شئ يعجز عنه هو يقدر عليه ذلك الكائن الذى لا يعجزه شئ !
الخلق من العدم بادئ ذى بدء ، والسيطرة المطلقة على كل شئ ،والتسخير المطلق كل شئ ، والقوة التى لا يقهرها شئ وهى تقهر كل شئ ، والمشيئة التى تحقق كل شئ فى لمح البصر لأنها تقول للشئ كن فيكون ..
والخلود الأولى الأبدى صفة يتفرد بها ذلك الكائن الذى لا يعجزه شئ .. وكل ما عداه يفنى ويزول ..
عندئذ يتحول الحس إلى ذلك الكائن الذى قدرته لا تحد .. فيهتدى ، ويعرف الله على حقيقته ويعبده حق عبادته ؛ أو يضل فيظن ذلك الكائن هو الشمس أو القمر أو النجم أو الروح القاطن فى الوثن الذى ينحته بيديه .. ولكنه يعلم فى كل حالة أنه هناك . أنه موجود ، وأنه إله ، وأنه معبود ، فيتقدم إليه بالشعائر ، ويلتزم نحوه بلون معين من السلوك .
m    m    m

رغبة أخرى من رغبات الإنسان لا تقل عمقا فى نفسه عن رغبة السيطرة ورغبة الخلود ، يحس فيها الإنسان بالعجز المطلق الذى لا تحده حدود ، تلك هى رغبته فى استكناه الغيب !
الرغبة فى معرفة الغيب قديمة قدم الإنسان على الأرض ..وستظل تصاحبه طالما كان هناك بشر يعيشون فى الأرض !
يريد الإنسان أن " يطمئن " على حياته .
كيف سيعيش ؟
هل يسلم من الأحداث ؟
هل يستمتع بالقوة والصحة والنشاط والحيوية فيما قدر له من العمر ؟
هل يحقق أحلامه ؟ يتزوج ويسعد ويحصل على الثروة والجاه .. أو يكون بطلا مجاهدا .. أو يكون زعيما قائدا .. أو ..
ماذا يكسب غدا ؟
بأى أرض يموت ؟
عشرات من التساؤلات ومئات .. يريد أن يعرفها " ليطمئن " ..
ويروح يستكنه الغيب فلا يقدر ..
لا غيب السنوات القادمة ولا الشهور ولا الأيام .. بل غيب الساعات القليلة القادمة .. بل غيب اللحظة المقدمة عليه ، التى دخل أولها من الباب وما زال آخرها محجوبا بحجاب !
كيف يقدر والغيب وراء الأستار ؟!
هل تنزاح الأستار ؟!
يمضى الإنسان فى جاهليته نحو الكاهن والعراف ، يستلهمه أمر الغيب ، ويتعلق بكل كلمة تخرج من شفتيه كأنها أسرار الغيب الحقيقى .. ولكن .. هل يستيقن ؟ هل " يطمئن " ؟
وحين يهتدى يعرف أن الكاهن والعراف والمنجم وضارب الرمل والشياطين والجن كلهم محجوبون مثله عن الغيب ، فكيف عن لطب الغيب منهم ، ولكن هل تغادره الرغبة فى أن يعلم سر الغيب ، ويطمئن على نفسه ومن يحبهم من حوله ويخاف عليهم ؟
يروح يتلهم حسه الباطن .. ويستلهم الرؤى .. ويستلهم تلك القوة الخفية فى نفسه التى تقدر على الاستشفاف .. ولكن هل يستيقن ؟ هل " يطمئن " ؟
كلا ! إنه يشعر بالعجز الكامل عن النفاذ وراء الأستار ، ويظل الغيب المحجوب ملفعا بالحجاب ..
عندئذ يتحول الحس إلى الكائن الذى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ، لأنه هو العليم بكل شئ ، وهو خالق الأحداث والأشياء وكل شئ سائر بمشيئته وحده لا بمشيئة أحد سواه .
ويهتدى فيعرف أن الله الحق علام الغيوم ، أو أو يضل فيظنه كائنا آخر .. ولكنه يعلم دائما أن أسرار الغيب مكشوفة للكائن العلوى الذى يخلق ويبدع وينتهى إليه مصير كل شئ ، فيعبده لونا من العبادة ، ويلتزم نحوه بلون من السلوك .
m    m    m

تلك بعض منافذ الفطرة التى تتلقى إيقاعات الكون والحياة ، فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة ، فتروح تبحث عن الله سواء اهتدت إلى الله الحق أم ضلت فى الطريق ..
لذلك فإن لفطرة دائما تعرف وجود  الله ، وتؤمن به فى داخل أعماقها ، وإن ضلت عن الهدى فتصورت الله على غير حقيقته أو أشركت به آلهة مزعومة ليس لها وجود .
أما أن تنكر الفطرة وجود الله أصلا ، وتقول إن الخلق قد وجد بلا خالق .. فبدعة فى الضلال غير مسبوقة فى التاريخ .
صحيح أن الحس البشرى بحكم الإلف أو العادة يتبلد ..
يتبلد على المنظر المكرور فلا يعود يهزه كما هزه أول مرة . ويتبلد على المعنى المكرور أو الحدث المكرور فلا يعود يستجيش مشاعره كما استجاشها أول مرة . فيعيش فى وسط الآيات غافلا عن دلالتها ، ويموت قلبه فلا يتحرك لمعنى الألوهية كما ينبغى
له أن يتحرك .. فيعيش كما تعيش السائمة :
{كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وصحيح أن البشرية حين يطول عليها الأمد " تتعب " من الإيمان بما لا تدركه الحواس ، وتتجه إلى المحسوس ، فتنشئ آلهة محسوسة تعبدها من دون الله أو تعبدها مع الله ، فى صورة أوثان وأصنام ، أو فى صورة بشر ، أو فى صورة أفلاك .. وذلك لأن الإيمان بما لا تدركه الحواس يستلزم أن يكون الإنسان فى وضعه الطبيعى أو الفطرى كما خلقه الله ، تعمل كل أجهزته فى وقت واحد ، فتعمل أجهزة الإدراك الحسى جنبا إلى جنب مع أجهزة الإيمان المعنوى أو الإيمان بما ا تدركه الحواس ، عملا فطريا طبيعيا متناسقا ينتج عنه الإيمان بالله عن طريق رؤية آياته فى الكون ، والإيمان به إيمانا مباشرا عن طريق الروح ، فيعمق كل منهما الآخر فيصل إلى درجة اليقين .
فإذا طال على البشرية الأمد يحدث " هبوط " فى كيان الإنسان ، يعطل أجهزة الإدراك المعنوى تعطيلا جزئيا أو كاملا ، وتبقى أجهزة الإدراك الحسى هى التى تعمل ، وعلى قدر الهبوط يكون نوع الشرك ودرجته .. فيظل صاحبه مؤمنا بالله ويشرك به آلهة محسوسة ، أو يؤمن بالآلهة المحسوسة وحدها من دون الله.
وصحيح أن البشرية فى حالة هبوطها تجنح إلى ثقلة الأرض فتشدها الشهوات إلى أسفل ، فتتفلت من تكاليف الدين والتزاماته . تتفلت من " قيد الإنسان " الذى تصاحبه " حرية الإنسان " ، وتجنح إلى " حرية الحيوان " التى تصاحبها قيود الحيوان " [17]" ولكنها فى مبدأ أمرها على الأقل تحب أن تسند هذا التفلت بأمر شرعى !
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [سورة الأعراف 7/28]
ورويدا رويدا تحتاج إلى اختراع آلهة تسند إليها ذلك التفلت ، من البشر أو غير البشر ، تتخذ أربابا مع الله أو من دون الله :
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31]
وصحيح أن الطغاة فى الأرض يضيقون بالقيد الربانى الذى يجعلهم عبيدا لله ككل العبيد ، خاضعين لأمره منفذين لشريعته ، ويريدون أن يكون لهم السلطان الطاغى فى الأرض ، ويريدون أن يكون الولاء لهم لا لله . فيضيقون دائما بديانة التوحيد ، وبإخلاص العبادة ه وحده ، فيفرضون أنفسهم بالقوة الغاشمة وبالإرهاب أربابا من دونا لله أو مع الله ، هم الذين يشرعون ، وهم الذين يفرضون التشريع ، وهم الذين يعاقبون " عبيدهم " إذا خرجوا على ذلك التشريع .
وفى هذه الحالات كلها يقع الشرك الذى تجنح إليه البشرية كلما ضلت الطريق . ولكنها فى كل حالاتها السابقة لم تكن تنكر وجود الله .
وحتى فرعون حين قال لموسى عليه السلام {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} [سورة الشعراء 26/23]
وحين قال لهامان : {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر 40/36-37]
وحين قال لقومه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [سورة القصص 28/38]
وحين قال قال لهم : {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24)} [سورة النازعات 79/24]
لم يكن ينكر وجود إله خالق لهذا الكون ، ولم يكن يقصد أنه هو الإله الخالق ، والدليل على ذلك قول الملأمن قومه له :
{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف 7/127]
فقد كان له هو إله يعبده ، هو الذى يؤمن بأنه خالق السماوات والأرض وخالق الكون كله " [18]" . وعلى الرغم من أنه كما سجلت الآثار الفرعونية كان يدعى " الإله ابن الإله " وكانت تقدم له شعائر التعبد من ركوع وسجود كما كانت تقدم لقيصر وكسرى ، إلا أن ألوهيته وبنوته للإله الأكبر كانت فى حسه كما هى فى حس " الجماهير " من قومه ألوهية مجازية لا حقيقية . وكان يقصد من أقواله لموسى وهامان ولقومه أمرين فى آن واحد . الأمر الاول أن الإله الذى يتحدث عنه موسى ، ويقول إنه مرسل من عنده ، ويعطى نفسه بناء على ذلك سلطانا يأمر به فرعون وينهاه ، ويطلب منه أن يطلق سراح بنى إسرائيل . هذا الإله الموجود حقيقة هو الإله الذى يعبده هو وقومه ، وينحتون له التماثيل ويرسمون له الرسوم ، الإله المحسوس الذى تعبده الجاهلية هبوطا منها عن الإيمان بما لا تدركه الحواس ، والأمر الثانى وهو مشتق من الأول أنه يقول لقومه خاصة : ما علمت لكم من سلطة تأمر فتطاع إلا سلطتى ، فأطيعونى ولا تطيعوا ذلك الخارج على سلطانى ، الذى يزعم أنه صاحب الكلمة التى ينبغى أن تطاع !
وحتى النمرود حين حاج إبراهيم فى ربه يرى نفسه ملكا ذا سلطان وإبراهيم فرد من أفراد " الشعب " لا يحق له أن يناقش صاحب السلطان ولا يامره ولا ينهاه .. لم يكن يعتقد أنه هو الإله الخالق ، إنما كان يصدر عن كبر أجوف بإزاء إبراهيم عليه السلام ، ولكن فى حماقة أشد من حماقة فرعون الذى كان يعلن على الملأ أن له إلها يعبده هو وقومه .. أما النمرود فقد جره الاستكبار على إبراهيم إلى الادعاء بأن له سلطانا فى الأرض يشبه سلطان الله ، وأنه مثل االه يحيى ويميت ! حتى حاجه إبراهيم عليه السلام فأخرسه :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [سورة البقرة 2/258]
m    m    m

وهذا الشرك الذى ينجم عن مثل الأسباب التى ذكرناها فى الفقرة السابقة هو الذى يبعث الرسل لتقويمه وتصحيحه ، ويوقع الوحى الربانى على ذات الأوتار التى خلقها الله فى الفطرة ،وجعلها تعتز لإيقاعات الكون والحياة ، فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة ، وتروح تبحث عن الله لتعبده وتخشاه .
فعن الكون بضخامته المعجزة ودقته المعجزة وما يحدث فيه من حركة معجزة يقول الوحى الربانى :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [سورة البقرة 2/164]
{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [سورة الأعراف 7/54]
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [سورة لقمان 31/10]
{أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)} [سورة الفرقان 25/45-46]
وعن قدرة الله لا فى الخلق فحسب ، بل فى تنويع الخلائق كذلك :
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/99]
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [سورة الرعد 13/4]
{أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [سورة فاطر 35/27-28]
وفى أطوار الجنين :
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [سورة المؤمنون 23/12-14]
وفى عجائب الخلق فى الأرض عامة وفى الإنسان خاصة :
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21]
وفى الموت والحياة :
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [سورة الملك 67/1-2]
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [سورة الزمر 39/42]
{هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [سورة غافر 40/68]
وفى جريان الأحداث :
{قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [سورة آل  3/26-27]
وفىالعجز البشرى مقابل القدرة الإلهية :
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} [سورة الطور 52/35-43]
وفى علم الغيب خاصة :
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [سورة الرعد 13/8-11]
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سورة سبأ 34/2-3]
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [سورة لقمان 31/34]
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [سورة الأنعام 6/59]
والقرآن كله فى الحقيقة توقيعات على أوتار القلب البشرى لاقتلاع كل دواعى الشرك واستنبات بذرة الإيمان.
فأما الغفلة التى ترين على القلب بحكم الألف  والعادة ، فالقرآن يستعرض آيات الله فى الكون بطريقة موحية تعرضها كأنما يشهدها الحس لأول مرة ، فيتلقى شحنتها كاملة ، ويتيقظ لدلالتها يقظة كاملة. فإذا استثير الوجدان بالآيات المعروضة على هذا النسق الفريد ،ـ قال له الحقيقة المطلوبة : " ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون " فيتلقى الوجدان الحقيقة حية متحركة تزيل عنه الغفلة وتذهب عنه " الران " .. فيتطلع القلب إلى الله ، شاعرا بعظمته ، مقرا بألوهيته وربوبيته ، مستيقنا بوحدانيته ، فيعبده وحده بلا شريك .
وأما الهبوط الذى تهبط به البشرية عن الإيمان بما لا تدركه الحواس ، فإن القرآن يعيد الروح البشرية إلى طلاقتها وإشراقها ، تارة بعرض سعة الكون الهائلة وإحاطة قدرة الله بها ، وتارة بعرض الدقة المعجزة فى الكون وارتباطها بقدرة اله ، وتارة بعرض إحاطة علم الله بكل ما فى الكون من أشياء وأشخاص وأحداث ، وتارة بعرض مشاهد القيامة حية مجسمة كأنها الحاضر الذى يعيشه الإنسان فى هذه اللحظة ، والحياة الدنيا كأنها ماض كان منذ زمان سحيق ، وتارة باستجاشة الوجدان بآيات رحمة بالإنسان ورعايته له فى سرائه وضرائه ، وتارة بعرض هيمنة الله المطلقة على كل شئ فى هذا الكون ، سماواته وأرضه وأفلاكه ، وناسه وأحداثه ، سواء فى الحياة الدنيا أو الآخرة ، يوم يبعث الموتى ويعرضون للحساب  {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)} [سورة طـه 20/108] {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [سورة طـه 20/111]
وحين يخاطب القرآن " الإنسان " كله ، من جميع جوانبه ، وفى كل حالاته ، يعود إلى وضعه الفطرى ، فتعمل أجهزته كلها فى وقت واحد ، فتعود لأجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس حيويتها الطبيعية ، فيؤمن الإنسان بالله الذى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [سورة الأنعام 6/103] بل جهد يبذله فى ذلك الإيمان ، بل بشعور عميق بالطمأنينة والرضا والاسترواح والسكينة التى تغمر القلوب :
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
فتصبح لحظات القلق هى لحظات البعد عن النور الإلهى الفياض وساعات الرضا هى ساعات الاقتراب .
وأما ثقلة الشهوات التى تجنح بالإنسان إلى التفلت من أمر الله ، وتؤدى به فى النهاية إلى ألوان مختلفة من الشرك ، فإن القرآن يرفع الإنسان عنها بتوسيع آفاقه ، ورفع اهتماماته ، وتوجيه طاقاته إلى جوانب الخير فى الحياة ، فيحدث " التسامى " أو " التصعيد " الذى يطهر النفس من الأرجاس :
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل  3/14-17]
وحين تصل النفس إلى هذه الرقعة فإنها لا تعود تستنكر القيد الربانى وتسعى إلى التفلت منه ، بل تحس أنه القيد الذى يمنح الإنسان الحرية اللائقة به .. حرية الإنسان . وتعود تنفر من ذلك الهبوط الذى كانت تتشهاه من قبل ، وتلمس فيه القيود الكريهة التى لم تكن تراها من قبل .. قيود الحيوان .. وعندئذ تقبل النفس على الله راضية بعبادته وحده دون سواه .
وأما الطغاة الذين يستعبدون الناس فى الأرض ، ويصنعون من أنفسهم أربابا مع الله أو من دون الله ، ويسوقون الناس إلى الشرك فى نهاية المطاف ، فالوحى الربانى يجند النفوس المؤمنة لجهادهم وإجلائهم من الأرض على أساس من إخلاص العبادة لله ، ذلك الإخلاص الذى يتضمن الاعتقاد اليقينى فى القلب بوحدانية الله ، والتوجه بالشعائر التعبدية لله وحده ، وتحكيم شريعة الله وحدها ، ورفض أى شريعة أخرى لم يأذن بها الله .
وبهذه الوسائل كلها مجتمعة تفئ الفطرة إلى سوائها ، وتعود إلى صفائها ، ويصبح الإنسان فى أحسن تقويم ..
m    m    m

ولقد كانت " مؤهلات " الشرك كلها قائمة فى الجاهلية المعاصرة منذ " النهضة الأوروبية " إلى اليوم ، مما ران على القلوب من غفلة ، ومن الهبوط الذى يعطل أجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس ، ومن الهبوط الخلقى واتباع الشهوات ، ومن تحكيم غير شريعة الله .
ولكن لأمر ما لم تؤد هذه " المؤهلات " بأوروبا إلى الشرك كما كان شأنها فى الجاهليات السابقة ولكنها أدت بها إلى الإلحاد !
ولابد من وقفة دراسة هذا الأمر الذى لا مثيل له من قبل فى كل جاهليات التاريخ .
الكنيسة الأوروبية بحماقاتها هى المسؤول الأول عن ذلك ولا شك .
فهذه الحماقات هى التى أدت إلى جعل العلم بديلا من الدين ، وجعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقى ، وجعل الطبيعة بديلا من الله ..
فالعلم فى وضعه الطبيعى ليس بديلا من الدين ! إنما هو نافذة من نوافذ المعرفة التى تؤدى فى النهاية إلى المعرفة الحقة بالله ، ومن ثم إلى إخلاص العبادة له ، حين يدرك العقل البشرى عظمة الخلق ويطلع على أسراره العجيبة التى تحير الألباب :
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر 35/28]
وحين قالت أوروبا أن الدين قد أخلى مكانه للعلم وإن العلم هو البديل من الدين ، لم تكن تتحدث عن حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة .. إنما كانت تتحدث عن " واقع " حدث فى أوروبا بسبب حماقة الكنيسة حين حاربت ا لعلم والعلماء ، وخيرتهم بين اتباع الخرافة للمحافظة على " الدين " دينها الذى ابتدعته وشكلته على حسب أهوائها وبين اتباع العلم والخروج من الدين . وقد اختار العلماء اتباع العلم لأنهم يعرفون قدره ، ويعلمون أنه أحق بالاتباع من الخرافة . فلما طردتهم الكنيسة من " الدين " كان العلم بالنسبة إليهم هو البديل من الدين . لا لأنه فى الحقيقة بديل عنه ، ولا لأنه بطبيعته يغنى عنه ، ولكن لأن حماقة الكنيسة وضعت الأمور فى هذا الوضع .
واسبب الظاهر ليس بديلا عن السبب الحقيقى ، لأنه يفسر فقط كيف تحدث الأشياء على النحو الذى تحدث به ، ولكنه با يفسر لماذا كانت الأشياء على هذا النحو !
فقانون السببية مثلا يفسر كيف يتحول الماء إلى بخار بالتسخين ، ولكنه لا يفسر لماذا كان التسخين يحول الماء إلى بخار ! فلولا أن الله خلق الماء على النحو الذى يجعله التسخين يتحول إلى بخار ما تحول !
بعبارة أخرى : إن العلم بخواص المادة يفسر لنا الظواهر التى تحدث فى عالم المادة ، ولكنه لا يفسر لماذا كانت المادة بهذه الصورة وبهذه الخواص . ذلك أن هذه الصورة ليست هى الصورة الوحيدة الممكنة عقلا .. بل هى إحدى الصور الممكنة ، وقد كان يمكن لو أراد الله أن تكون على صورة أخرى وذات خواص مختلفة . فالذى جعلها على هذه الصورة ، وأعطاها هذه الخواص هو مشيئة لله وحدها . وهذا هو السبب الحقيقى الذى لا يغنى عنه معرفة السبب الظاهر ، وإلى ذلك تشير سورة الواقعة :
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)} [سورة الواقعة 56/58-70]
وحين قال علمءا أوروبا فى عصر النهضة وما بعده إن السب الظاهر بديل من السبب الغيبى ، أو من " الطبيعة " بديل عما " وراء الطبيعة " لم يكن ذلك حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة .. إنما كان " واقعا " عاشته أوروبا بسبب حماقة الكنيسة ، التى كانت تمنعهم أو لا تتيح لهم أن يبحثوا عن السبب الظاهر ، وتبرز لهم السبب الغيبى وحده مع إبقائهم فى ظلمات الجهل ، فلما اكتشفوا السبب الظاهر ، وانبهروا " بالعلم " الذى كشف لهم عن طريق معرفة السبب الظاهر آفاقا لم يكونوا يعرفونها من قبل ، كان الأمر الواقع بالنسبة إليهم أن السبب الظاهر هو الذى علمهم ؛ ومن ثم كان وضع السبب الظاهر بديلا من السبب الغبيى هو الأنسب لهم والأكسب ! فقالوا قولتهم من واقعهم الضيق الذى عاشوه ، وخيل إليهم فى بهرة " العلم " أن ما يقولونه هو الصواب !
وحين جعلت أوروبا الطبعة بديلا من الله لم يكن ذلك كما بينا فى فصول الكتاب الأولى إلا مهربا من إله الكنيسة الذى تستعبد الناس باسمه وتفرض عليهم الإتاوات والعشور ، والخضوع المذل لرجال الدين ، مع محاربة العلم ، والحجر على حرية الفكر ، ومع الوقوف الظالم مع رجال الإقطاع ضد المطالبين بالإصلاح .. ولم يكن قط حقيقة علمية ، وإن بلغ الحمق " بالعلماء " أن يصدقوا الخرافة ، ويقدموها على الحقيقة ، ويصنعوا ذلك باسم "العلم"!
ولكن هذا كله على أى حال كان إلحاد " العلماء " و" الفلاسفة " و" المفكرين " .. أما الجماهير فكانت ما تزال تؤمن " بالدين " . ولا نتعرض هنا لما كان فى ذلك الدين الذى آمنت به الجماهير من تحريف وتشويه وخرافة .. وإنما نتحدث عنه باعتبار أنه " دين " يحوى علىاقل تقدير إيمانا بوجود الله وإيمانا بالوحى ، وإيمانا باليوم الآخر ، فى مقابل " اللادين " .. فى مقابل الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله ، وإنكار الوحى ، وإنكار اليوم الآخر ..
كيف انتقلت الجماهير من الدين إلى اللادين ؟
الكنيسة هى المسئول الأول ما تزال ..
والفتنة بالعلم من الأسباب ..
والعودة إلى " الحضارة الإغريقية " أو بالأحرى " الجاهلية " الإغريقية الوثنية هى كذلك من الأسباب ، فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تصور العلاقة بين الإنسان والآلهة علاقة صراع وخصام متبادل . الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتستذله ، وتتشفى فى كل مصيبة يقع فيها ، والإنسان يريد أن يلقى عنه نير الآلهة وينطلق بفاعليته دون قيود"[19]" .
والعودة إلى " الحضارة " الرومانية أو بالأحرى " الجاهلية " الرومانية هى كذلك من الأسبابا ، فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تزين للإنسان لذائذ الحس ، والفتنة بها إلى حد الاستغراق مع كل ما تبدعه فى الأرض من رقى مادى وتنظيم .
ولكن هذه الأسباب كلها مجتمعة كان يمكن أن تؤدى إلى الشرك كما أدت إليه فى كل جاهلية سابقة ولم يكن من الضرورى ولا من الطبيعى أن تؤدى إلى الإلحاد بين الجماهير ..
إنما الى نشر الإلحاد فى الأرض تأسيسا على هذه الأسباب كلها ، واستغلالا لها كانوا هم اليهود !
كتب اليهود فى " البروتوكولات " " [20]" أنهم سينشرون الإلحاد فى الأرض .. وقد نشروه بالفعل ..
الثورة الفرنسية .. الداروينية .. الثورة الصناعية .. النظريات " العلمية " التى تهاجم الدين والأخلاق والتقاليد .. إنشاء مجتمع بلا دين ولا أخلاق ..
ما بن من حاجة لأن نعيد شيئا مما قلناه من قبل " [21] " .. وإنما نذكر فقط بهذه الحقيقة : أن اليهود استغلوا الأحداث التى هيأتها لهم حماقة الكنيسة ، وردود الفعل التى نشأت من تلك الحماقة ، فركبوا الموجة إلى نهايتها ، ونفذوا كل ما فى جعبتهم من مخططات الإفساد فى الأرض ، لاستحمار الأمميين واستعبادهم لصالح الشعب الشرير .
والإلحاد بالذات هدف أساسى من أهداف المخطط الشرير .. فالهدف الأخر من المخطط كله هو إزالة كل دين فى الأرض ، ليبقى اليهود وحدهم فى الأرض أصحاب الدين !
إن اليهود فى هذه المرة لم يفسدوا عقائد الأمميين كما كانت محاولاتهم السابقة فى التاريخ ، إنما أفسدوا فطرتهم . وقد أسلفنا القول بأن الفطرة وإن ضلت لا تتجه إلى الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله ، وإنما تتجه إلى الشرك . فاتجاهها إلى الإلحاد فى الجاهلية المعاصرة ليس مجرد ضلال ككل ضلال سابق ، إنما هو فساد فى أعماق الفطرة قام به اليهود استغلالا للأرضية الفاسدة التنى كانت قائمة فى أوروبا منذ " النهضة " . وسواء كان الجهد الذى بذلوه فى هذا الشأن عسيرا أو ميسرا فقد استغرقوا قرابة قرنين من الزمان حتى وصلوا به إلى صورته الشاملة الموجودة اليوم فى الأرض ، سواء فى المعسكر الشرقى حيث يفرض الإلحاد فرضا فى مناهج التعليم ووسائل الإعلام ، ويعاقب من يضبط " متلبسا " بمجرد الحديث فى الدين لفتى أو فتاة دون سن الرشد .. أو المعسكر الغربى حيث لا يفرض الإلحاد على الناس بتلك الصورة ولكن يشجع الناس عليه بكل وسائل التشجيع !
والإلحاد لا يستحق منا مناقشة " علمية " جادة لأنه ليس من الأمور الجادة التى عرضت للبشرية فى مسيرتها على هذه الأرض ، إنما هو عبث صنعه الشياطين ، وأوقعوا فيه المستغفلين من الأمميين فى فترة كانوا فيها {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [سورة المدثر 74/50-51] ولقد كانت " الحمر " فارة من طغيان الكنيسة وحماقاتها ، فأسرع الشياطين فركبوها وألهبوا ظهورها بالسياط لتجرى إلى آخر المشوار ، بدجل من أن تفيق من نفرتها المجنونة وتفئ إلى الدين الصححي الذى يخلصها من كل ما كانت تشكو منه من مشكلات أو انحرافات أو حماقات ..
وقد تحدثنا فى مقدمة هذا الفصل عن بعض منافذ الفطرة التى توصلها إلى الإيمان بوجود الخالق المدبر المهيمن المسيطر ، سواء عرفته على حقيقته فعبدته العبادة الحقة أم تصورته على غير حقيقته وأشركت به آلةو أخرى ، وما بنا من حاجة إلى مزيد فى مثل بحثنا الحاضر . ولكنا هنا فى هذا الفصل بصدد شئ واحد هو التأكيد على هذه الحقيقة : أن الإلحاد ليس من شأن الفطرة حتى فى حالة ضلالها ، وأنه أمر مصطنع ، لا تصل إليه الفطرة من تلقاء نفسها مهما وصل بها الحال من الضلال .
ونكتفى بالتعرض لنقطة واحدة مما جاء فى التواءات الجاهليين المعاصريين فى شأن الدين ، أو فى شأن الإلحاد .
تلك هى قولة جوليان هكسلى فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث Man in the Modern World " إن الإنسان قد خضع له بسب عجزه وجهله ن والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة . فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل فى عصر الجهل والعجز على عاتق الله ، ومن ثم يصبح هو الله .
نعوذ بالله .
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [سورة غافر 40/56]
نفترض جدلا أن العجز والجهل وحدهما هما سبب خضوع الإنسان له فى صورة دين وعقيدة وعبادة .. فما الذى تغير فى حياة الإنسان المعاصر ليخرجه من الخضوع لله ؟!
تلك القشور من العلم التى وصل إليها ،وهذا القدر الضئيل من السيطرة على " البيئة " ؟!
فأما العلم فندع " ول ديورانت " الفيلسوف المعاصر يتحدث عنه فى كتاب " مباهج الفلسفة " .
" ما طبيعة العالم ؟ وما مادته وما صورته ؟ وما مكوناته وهيكله ؟ وما مواده الأولى وقوانينه ؟ وما المادة فى كيفها الباطن وفى جوهر وجودها الغامض ؟ وما العقل ؟ أهو على الدوام متميز عن المادة وذو سلطان عليها ؟ أم هو أحد مشتقات المادة وعبد لها ؟ أيكون كلا العالمين : الخارجى الذى ندركه بالحس والباطنى الذى نحسه فى الشعور ، عرضة لقوانين ميكانيكية أو حتمية كما قال الشاعر " ما يكتبه الخالق فى مطلع النهار نقرؤه فى آخر النهار " ؟ أم ثمة فى المادة ، أو فى العقل ، أو فى كليهما ، عنصر من الاتفاق والتلقائية والحرية ؟ .. هذه أسئلة يسألها قلة من الناس ، ويجيب عليها جميع الناس . وهى منابع فلسفاتنا الأخيرة ، التى يجب أن يعتمد عليها فى نهاية الأمر كل شئ آخر ، وفى نظام متماسك من الفكر .. إننا نؤثر معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة على امتلاك سائر خيرات الأرض .
" ولنسلم أنفسنا فى الحال لإخفاق ما مناص منه . لا لأن هذا الباب من الفلسفة يحتاج فى إتقانه إلى معرفة كاملة ومناسبة بالرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والميكانيكا وعلم الحياة وعلم النفس فقط ، بل لأنه ليس من المعقول أن نتوقع من الجزء أن يفهم الكل .. فهذه النظرة الكلية وهى فتنتنا فى هذه المغامرات اللطيفة ستبعد عن فكرنا جميع الفخاخ والمفاتن . ويكفى أن نأخذ أنفسنا بقليل من التواضع وشئ من الأمانة ، لنتأكد أن الحياة فى غاية من التعقيد والدقة بحيث يصعب على عقولنا الحبيسة إدراكهما . وأكبر الظن أن أكثر نظرياتنا تبجيلا قد يكون موضع السخرية والأسف عند الآلهة العليمة بكل شئ " [22]" . فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نفخر باكتشاف مهاوى جهلنا ! وكلما كثر علمنا قلت معرفتنا ، لأن كل خطوة نتقدمها تكشف عن غوامض جديدة ، وشكوك جديدة . " فالجزئ " يتكشف عن " الذرة " والذرة عن الإلكترون (الكهرب) والإلكترون   عن الكوانتوم " Quantum" (الكويمية) . ويتحدى الكوانتوم سائر مقولاتنا " Categories" وقوانينا وينطوى عليهما . والتعليم تجديد فىالعقائد وتقدم فى الشك ، وآلاتنا كما ترى مرتبطة بالمادة وحواسنا بالعقل .. وفى خلال هذا الضباب يجب علينا نحن " الزغب " على الماء ، أن نفهم البحر ! " [23] "
وعن تقلب " العلم " يقول :
" إلى أى نجم بعيد ذهبت نظريتنا السديمية المشهورة ؟ هل يؤيدها علم الفلك الحديث أو يسخر من وجهها المغبر ؟
" وأين ذهبت قوانين نيوتن العظيم حين قلب أينشتين وميكوفسكى وغيرهما الكون راسا على عقب بمذهب النسبية غير المفهوم ؟
" وأين مكان نظرية عدم فناء المادة وبقاء الطاقة فى الفيزيقا المعاصرة ، وما يكتنفها من فوضى وتنازع ؟
" وأين إقليدس المسكين اليوم ، وهو أعظم مؤلف لمراجع العلمية ، ليرى كيف يصوغ الرياضيون لنا أبعادا جديدة بحسب أهوائهم ، ويبتدعون لا متناهيات يحتوى أحدهما الآخر كجزء منه ، ويثبتون فى الفيزيقيا والسياسة كذلك أن الخط المستقيم هو أطول مسافة بين نقطتين ؟!
" وأين علم الأجنة ليرى أن " البيئة الناشئة " تحل محل " الوراثة " التى كانت إله العلم " [24] " ؟ وأين " جوريجورى " و" مندل " الآن ليشهدا انصراف علماء الوراثة عن " وحدة الصفات " ؟ وأين " داروين " الهدام الدقيق ليرى كيف حلت طريقة " التغيرات السريعة " محل " الاختلافات الذاتية والمتصلة " فى التطور ؟ وهل هذه التغيرات هى الثمرة المشروعة لاختلاط الهجائن ؟ وهل نضطر إلى الرجوع فى تفسيرنا للتطور إلى الوراء عند نظرية " انتقال الصفات المكتسبة " ؟ أنجد أنفسنا وقد عدنا مرة أخرى أكثر من قرن إلى الماضى نعانق رقبة زرافة " لامارك " ؟
" وماذا نصنع اليوم بمعمل الأستاذ فونط " Wundt " وباختبارات " استانلى هول " حين لا يستطيع أى عالم نفسانى من اتباع السلوكيين أن يكتب صحيفة واحدة فى علم النفس الحديث دون أن يلقى بمخلفات أسلافه فى الهواء ؟!
" وأين علم التاريخ الحديث اليوم حيث يضع كل عالم فى تاريخ قدماء المصريين كشفا بالأسرات وتواريخها على هواه ، ولا يختلف عن كشوف غيره إلا ببضعة آلاف من السنين ؟! ويحث يسخر علماء الأجناس من " تيلور " و" وستر مارك " و" سبنسر " ؟ وحيث يجهل " فريزر " كل شئ عن " الدين البدائى " لأنه قد رحل إلى العالم الآخر ؟!
فماذا أصاب علومنا ؟ هل فقدت فجأة قداستها وما فيها من حقائق أزلية ؟ أيمكن أن تكون " قوانين الطبيعة " ليست سوى فروض إنسانية ؟ ألم يعد هناك يقين أو استقرار فى العلم ؟ " [25]" .
وعن " حقيقة " المادة يقول :
" وأول شئ نكشفه هو أن المادة القديمة غير المتحركة التى وصفتها طبيعيات القرن التاسع عشر قد ذهبت . وكانت " مادة " تندال وهكسلى غير فاسدة . فهى تقعد وتنام أنى وضعتها ، كذلك الصبى البدين فى قصة " أوراق بكويك " " [26] " وهى تقاوم بكل ما فيها من وقار الحجم والثقل كل جهد لتحريكها ، أو لتغيير وجهة حركتها متى أخذت فى الحركة . وبين " برجسون " فى يسر شديد أن مادة فى مثل هذا الخمود لا يمكن أبدا أن تفسر الحركة ، ومن باب أولى لا تحدث الحياة والعقل . ولكن رجال الطبيعة مع ذلك ، كما كتب برجسون ، كانوا فى سبيلهم إلى هجر تصور المادة خامدة ،وإلى الكشف فيها عن حيوية لا ريب فيها . فهذه مثلا الكهرباء لا يمكن تفسيرها فى صيغ من الخمود والذرات . فما هذه القوة الخفية التى تضاف إلى الكتلة فتزيد فى طاقتها ولكنها لا تضيف شيئا إلى أبعادها وثقلها ؟ وكيف تسرى الشحنة الكهربية فى سلك أو الهواء اللاسلكى ؟ أهى شئ يتحرك فى تلك الموجات الكهربية التى تكاد تبلغ فى سرعتها سرعة الضوء نفسه ؟ أهى الذرات ؟ أو " الأثير " أو لا شئ ؟ وفى أشعة إكس ، عندما تمر شرارة كهربية فى فراغ باعثة أشعة تنفذ من جدران الأنبوبة وتغير من اللوح الحساس كيميائيا ، فما هذا الذى يمر خلال الفراغ أو الجدران ؟ وعندما بدت المادة نشيطة لا تفرغ ، كما هو الحال فى الراديوم ، وبدت الذرات (التى لا يمكن أن تنقسم) منقسمة إلى ما لا نهاية ، وأصبحت كل ذرة نظاما كوكبيا من الشحنات الكهربية تدور حول شئ لا يزيد جوهره عن شحنة كهربية أخرى .. فأى مأزق وقعت المادة فيه حين فقدت كتلتها ووزنها وطولها وعرضها وعمقها وعدم قابليتها للنفاذ ، وسائر تلك الخصائص الثقيلة التى ظفرت باحترام كل مفكر واقعى ؟ أكان الخمود أسطورة ؟ أيمكن أن تكون المادة حية ؟ " [27] "
" لقد كانت هناك دلائل من قبل على وجود هذه الطاقة فى المادة . فالتماسك والتآلف ، والتنافر ، كانت توحى بها . ويبدو اليوم من المحتمل أن تكون هذه الصفات وكذلك الكهربية والمغناطيسية صورا من " الطاقة الذرية " وهى ظواهر ترجع إلى حركة الإلكترونات الدائبة فى الذرة .. ولكن ، ما الإلكترون ؟ أهو جزء من " المادة " يظهر فى ثوب من الطاقة ؟ أو هو مقدار من الطاقة منفصل تمام الانفصال عن أى جوهر مادى ؟ ولا يمكن أن نتصور الفرض الأخير ! ويقول ليبون " قد يمكن ولا ريب لعقل أسمى من عقلنا أن يتصور الطاقة بغير مادة .. ولكن مثل هذا التصور فى غير مقدورنا . فنحنن لا نستطيع أن نفهم الأشياء إلا بوضعها فى الإطار المشترك لأفكارنا . ولما كانت ماهية الطاقة مجهولة فنحن مضطرون إلى صوغها صياغة مادية حتى نفكر فيها " . فنحن كما يقول برجسون ماديون بالطبع ، فقد ألفنا التعامل مع المادة والأمور الميكانيكية . ولذا لم ننصرف عنها كى ننظر فى أنفسنا فإننا نتصور كل شئ كآلة مادية . ومع ذلك فإن أوستولد " Ostwald" يصف المادة على أنها صورة من الطاقة وحسب . ويرد رذرفورد الذرة إلى وحدات الكهرباء الموجبة والسالبة . ويعتقد لودج أن الإلكترون لا يشتمل على نواة مادية أكثر من شحنته . ويقول ليبون ببساطة : " المادة صورة مختلفة من الطاقة " ويقول ج . ب . س . هالدين : " يعتبر بعض الناس من أقدر المفكرين فى العالم اليوم المادة كمجرد ضرب خاص من الاضطراب التموجى " . ويقول إدنجتون : " إن المادة مركبة من بروتونات وإلكترونات ، أى شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء . فاللوح هو فى الحقيقة مكان فارغ مشتمل على شحنات كهربية مبعثرة هنا وهناك " . ويقول هواريتهيد : " إن مفهوم الكتلة فى طريقه إلى فقدان امتيازه الوحيد ، باعتبارها المقدار الواحد الدائم فى النهاية .. فالكتلة الآن اسم لكمية من الطاقة فى علاقتها ببعض آثارها الديناميكية " . وإلى هذه المرتبة لاوضيعة سقط الجبار ورجعنا إلى بوسكوفيتش " Boscovich " " [28]" الجزويتى القديم ، إلى تلك العبارة غير المفهومة : من أن المادة التى تشغل " المكان " مركبة من نقط لا وجود لها ! وفى ذلك يقول نيتشه : " لقد كان بوسكوفتش وكوبرنيق حتى الآن أعظم خصمين وأكثرهما نجاحا فى دحض شهادة العيان " . فلا غرابة أن يستنتج ديوى أن " مفهوم المادة الذى يوجد بالفعل فى تطبيق العلم لا يمت بصلة إلى مادة الماديين " !
" أيمكن أن يكون شئ أكثر غموضا وغرابة من هذا القول الذى يقوله علماء الطبيعة من أن " المادة " بمعنى " الجوهر المتحيز " " Spatial " قد بطلت عن الوجود ؟ فهم يقولون إن الإلكترونات ليس فيها شئ من خصائص المادة ، فهى ليست صلبة ، ولا سائلة ، ولا غازية ، وهى ليست كتلة ، أو صورة ، وانحلالها إلى نشاط إشعاعى يلقى شكوكا على أعز عقيدة فى العلم الييدث ، أى عدم قابلية المادة للفناء ..ولنسمع رأى أحد علماء الطبيعة مرة أخرى " إن عناصر الذرات التى تنحل تفنى تماما ، فهى تفقد كل صفة للمادة ، بما فى ذلك الثقل وهو أكثر صفاتها أساسية . ذلك أن الميزتان يعجز عن وزنها ولا شئ يستطيع أن يعيدها إلى حالة المادة ، فقد اختفت فى عظمة الأثير .. والحرارة والكهرباء والضوء إلى غير ذلك .. تمثل آخر مراحل المادة قبل اختفائها فى الأثير .. والمادة التى تنحل تخرج عن ماديتها بمرورها فى حالات متتابعة تنتزع منها تدريجيا صفاتها المادية ، حتى تعود فى النهاية إلى الأثير الذى لا يمكن وزنه ، ذلك الأثير الذى يبدو أنها نشأت عنه .
" الأثير ؟ .. ولكن ما هو الأثير ؟ لا أحد يعرف ! ليس الثير فيما يقول لورد سالسبورى إلا اسما على الفعل " يتموج " والأثير خرافة ابتدعت لإخفاء الجهل المثقف للعلم الحديث . فهو غامض غموض الشبح أو الروح ! وافترض أينشتين وجود الأثير حين أعاد تفسير الجاذبية ، وعزم أخيرا أن يدخره إلى حين مع تحديد سلطانه ! وكلما يعجز عالم من علماء الطبيعة ويتحير يقول : " الأثير " !
" ويقول الأستاذ إدنجتون أحدث حجة فى هذا الموضوع : " لسي الأثير نوعا من المادة ، فهو لا مادى .
" ومعنى ذلك أن شيئا لا ماديا يحيل نفسه إلى مادة بوساطة بعض الالتواءات " Contortions " (دوامات Vortices " كما سماها كيلفن) ويصبح ذلك الذى لم يكن له بعد أو ثقل ، بإضافة أجزاء منه بعضا إلى بعض ، مادة متحيزة ،ويمكن أن توزن . أهو اللاهوت قد أعيد ؟ أم هو علم مسيحى جديد ؟ أم هو صورة من البحث العلمى ؟ وفى الوقت الذى يحاول علم النفس بكل سبيل أن يتخلص من " الشعور " حتى يرد " العقل " للمادة " يأسف علم الطبيعة فى تقريره أنا لمادة لا توجد ! ولقد قال نيوتن متعجبا : " أيتها الطبيعة احفظينى مما بعد الطبيعة " الميتافيزيقا " . فيا للأسف لن تقدر الطبيعة أن تفعل أكثر من ذلك !
" يقول برتراندرسل : " يقترب علم الطبيعة من المرحلة التى يبلغ فيها الكمال " وجميع الدلائل تدل على العكس من ذلك .. أما هنرى بوانكاريه فيرى أن علم الطبيعة الحديث فى حالة من الفوضى ، فهو يعيد بناء جميع أسسه ، وفى أثناء ذلك لا يكاد يعرف أين يقف . وقد تغيرت الأفكار الأساسية عن الطبيعة تغيرا تاما فى العشرين السنة الأخيرة فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما . ولم تسمح أعمال كورى ورذرفورد وسدى وأينشتين ومينكوفسكى لأى تصور قديم عن الطبيعة النيوتونية بالبقاء . وكان لابلاس يحسد نيوتن لأنه كشف النظام الوحيد للعالم وحزن على عدم وجود نظم أخرى تكشف ! ولكن عالم نيوتن قد انتحى اليوم جانبا . ولم يعد التثاقل " Gravitation " مسألة جاذبية " Attraction " وتمزقت " قوانين " الحركة فى كل جهة بنظرية النسبية . وقد كانت الفلسفة تبحث ذات يوم فى " الأشباح " والمجردات ، وكان العلم يبحث فى " المادة " و" المحسوس " و" الحقائق الواقعة " . أما الآن فلعم الطبيعة مجموعة مستورة " Esoteric " من القوانين المجردة . " وفكرة المادة مفقودة بالكلية فى الدوائر العلمية " " [29]" . كان على الفلسفة أن تتنحى جانبا _ولا يزال بعض الناس يتوقعون موتها خلال خمسين عاما) أما العلم فعليه أن يحل مشكلاتنا . والآن فى الوقت الذى يحمل رجل الشارع العلم والعلماء جميع أفكار الإلهام واليقين التى كانت متصلة ذات يوم بالإنجيل والكنيسة " [30] " ، يقال لنا فى تواضع إن : " البحث العلمى لا يفضى إلى معرفة طبيعة الأشياء الباطنة " " [31] " (ص 68 73 من الترجمة العربية) .
m    m    m

وأما السيطرة أو قل العجز فقد تحدثنا عنه فى إحدى فقرات هذا الفصل ، وبينا أنه عجز دائم أصيل لا يؤثر فيه ولا ينقص منه هذا القدر من السيطرة الذى يحققه الإنسان " بالعلم " " والتكنولوجيا " وإن فتت الذرة وأطلق طاقتها ، وإن ركب الصواريخ وطاف بها فى أرجاء الكون ، لأن الذى يرغب فيه الإنسان ، ويحس بالعجز عن تحقيقه هو أمر بالنسبة إليه مستحيل التحقيق : أن يسيطر سيطرة كاملة على الكون . أن يقول للشئ كن فيكون . أن يخلد فى الأرض . أن يعلم الغيب . وبعض هذه كان من المغريات التى أغرى بها الشيطان آدم منذ بدء الخليقة :
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20)} [سورة الأعراف 7/20]
ومن هنا فإن الشعور بالعجز شعور دائم ملازم للإنسان فى كل أحواله وفى جميع أوضاعه . وليس إنسان العصر الحديث ناجيا منه حتى يقول جوليان هكسلى إنه قد آن للإنسان أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل فى عصر الجهل والعجز على عاتق الله ، ومن ثم يصبح هو الله :
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [سورة الروم 30/7]
ونحب أن نضيف إلى ذلك أن الإنسان السوى يعلم أن ما يحققه من تسخير طاقات السماوات والأرض ليس " اغتصابا " من الإله كما تصور ذلك الأساطير الإغريقية المجنونة ، حتى يكون مبررا للخروج على طاعة الله ، بل التبجح بإنكار وجود الله كما تفعل الجاهلية المعاصرة ، إنما هو من قدر الله للإنسان ، ومن رحمة الله بالإنسان ، ومن فضل اله على الإنسان ، لأنه هو الذى سخره ابتداء للإنسان ، ثم أعانه على تحقيقه :
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة 2/31]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [سورة إبراهيم 14/32-34]
m    m    m

وأخيرا ، فنحن نزعم أن الدين من الفطرة ، وهم يزعمون أنه طلل بال ينبغى أن تزال آثاره ، ليحل محله " العلم " و" الإلحاد " .
ونحن نستشهد عليهم من أنفسهم كما أشرنا من قبل .
نستشهد عليهم برائد الفضاء الأول " يورى جاجارين " الذى قال بعد هبوطه من الفضاء فى المؤتمر الصحفى العالمى الذى أعد لاستقباله : " حين صعدت إلى الفضاء أخذتنى روعة الكون فمضيت أبحث عن الله " !
ولا عبرة " بالتصحيح " الذى أضافته ادولة على تصريحه أو أمرته أن يضيفه ، فقال :
" فمضيت أبحث عن الله فلم أجده " !
إنه تمحل واضح ..
ولا يمكن أن يكون " جاجارين " قد قاله ابتداء ! فما الذى يجعله يتحدث عن الله ابتداء إذا كان قصده هو النفى ، ولا أحد من الحاضرين قد أثار القضية حتى يتعرض لنفيها ؟! إنما المعقول أن يكون ذكره لله ابتداء للإثبات لا للنفى . لإثبات استجابة " الفطرة " الطبيعية لعظمة الكون وروعته حين رآه لأول مرة من خارج الغلاف الجوى ، فرآه فى صورة مختلفة عما تبلد عليه حسه بحكم الألف والعادة .. فاتجهت الفطرة اتجاها تلقائيا إلى فاطر السماوات والأرض ، رغم كل " الإلحاد " الذى صبته الدولة فى قلبه وفكره منذ مولده إلى لحظة انطلاقه فى الفضاء !
وهى شهادة " أفلتت " من المعسكر الملحد بغير قصد منه ولا تدبير :
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة فصلت 41/53]
ونستشهد عليهم بما يقوله " علماء " من علمائهم ، تربوا فى " الإلحاد العلمى " ! فألجأهم " العلم " ذاته إلى الإيمان بوجود الله ، ونكتفى بهذه المقتطفات من كتاب " العلم يدعو للإيمان " " [32]" وكتاب " الله يتجلى فى عصر العلم " " [33] " فهى تغنينا عن المزيد .
يقول " أ . كريسى موريسون " رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك :
" فى خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدى درجة علية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندرى .. فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط ، ويحفر حفرة فى الأرض ، ويخز الجندب فى المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه ، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ . وأنثى الدبور تضع بيضا فى المكان المناسب بالضبط ، ولعلها لا تدرى أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى دون أن تقتل الحشرة التى هى غذاؤها فيكون ذلك خطرا على وجودها . ولابد أن يكون الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما ، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض .. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية ؛ ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة !
" وإن أنثى الدبور تغطى حفرة فى الأرض وترحل فرحا ثم تموت . فلا هى ولا أسلافها قد فكرت فى هذه العملية وهى لا تعلم ماذا يحدث لصغارها ؛ أو أن هناك شيئا يسمى صغارا . بل إنها لا تدرى أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها ! " " [34] " .
" وفى بعض أنواع النمل يأتى العملة بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل فى خلال فصل الشتاء ، وينشئ النمل ما هو معروف " بمخزون الطحن " وفيه يقوم النمل الذى أوتى فكاكا كبيرة معدة للطحن ، بإعداد الطعام للمستعمرة . وهذا هو شاغلها الوحيد . وحين يأتى الخريف ،وتكون الحبوب كلها طحنت فإن " أعظم خري لأكبر عدد " يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام .. وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان ، فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود ،ولعلها ترضى ضميرها الحشرى بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافى ، إذ كانت له الفرصة الأولى فى الإفادة من الغذاء أثناء طحنه !
" وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منهما ما يحلو لك) إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته " بحدائق الأعشاش " وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق ، (وهى حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية) فهذه المخلوقات هى بقر النمل وعنزاتها ! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له .
" والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها . وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحكم المطلوب .. وبينما تضع بعض عملة النمل الأطراف فى مكانها ، تستخدم صغارها التى تقدر أن تغزل الحرير وهى فى الدور اليرقى لحياكتها معا ! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة !
" فكيف يتاح لذرات المادة التى تتكون منها النملة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة ؟
" لاشك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك " " [35]" .
ويقول عالم الطبيعة " فرانك ألن " .
" ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات الكون تفقد حرارتها تدريجيا وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هى الصفر المطلق ، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة .. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضى الوقت .
" أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة ، فهو إذن حدث من الأحداث ،ومعنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلى له بداية ، عليم محيط بكل شئ ، قوى ليست لقدرته حدود . ولابد أن يكون هذا الكون من صنع يديه"[36]".
ونكتفى بهذه المقتطفات ولا نحتاج إلى المزيد . فهى كلها ناطقة بمدى سخف تلك البدعة الضالة التى نشرها الشياطين فى الجاهلية المعاصرة . حين يسرت لهم " الحمر المستنفرة " أن يركبوها ويهيموا بها فى وديان الضلال !
أما الذين يحسون اليوم أن " وجودهم الذاتى " أو مجدهم الذاتى مرتبط باعتناق الإلحاد بدلا من اعتناق الدين ، فهم فقاقيع ستنفثئ غدا حيت تعود البشرية إلى رشدها .. ونحسب أنها بحكم الظروف كلها عائدة إليه ، ما لم يكتب اله عليها الفناء ! " [37] " .
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد 13/17]
m    m    m



الإسلام ومستقبل البشرية
تفزع أوروبا من الدين كما يفزع الملدوغ من الحبل ..ولو كان بالنسبة إليه حبل النجاة !
وأوروبا تسيطر اليوم بقوتها السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية على العالم كله . وتجر البشرية معها إلى الهاوية بسبب ذلك الموقف الأحمق لمفزع من الدين !
ولقد زعمت الجاهلية المعاصرة فى أول أمرها فى عصر النهضة أنها تستطيع أن تدير ظهرها للدين ثم تظل تمارس الحياة بصورة طبيعية لا يعتورها نقص ولا اختلال . بل زعمت أنها حين تتخلص من الدين فستعالج ما كان فى حياتها من نقص واختلال ! ولقد كانت ظروفها كما بينا من قبل تؤدى بها إلى الانسلاخ من ذلك الدين الذى يعكر صفو الحية ، ويعطل دفعتها ، وينشر الجهالة ،ويحجز على الفكر ، ويحجب عن البشرية النور .
وحين بدأت أوروبا تنسلخ من دينها لم يكن فى مقدورها أن تنسلخ دفعة واحدة من " القيم " التى كانت تصاحب ذلك الدين ، وربما لم يكن ذلك فى نيتها فى مبدأ الأمر ,.
فراح القوم مخلصين فيما نحسب يبحثون عن مصدر آخر للقيم التى لا يمكن أن تعيش بدونها البشرية .
ولكن التجربة العلمية أثبتت أنه لا يوجد مصدر حقيقى للقيم غير الدين !
قالوا العقل .. وقالوا الطبيعة .. وقالوا النفس البشرية .. وقالوا العلم .. وقالوا الفلسفة .. وقالوا كل ما يخطر فى بالهم . ثم خرجوا من ذلك كله بما وصلوا إليه آخر الأمر : القلق والجنون والضياع والحيرة والأمراض النفسية والعصبية والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة والانحلال والمسخ الذى يشوه الفطرة .. والهبوط الخلقى والفكرى والروحى فى كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول كلها على السواء ! وتحول الإنسان إلى آلة للإنتاج المادى فى صباحه ، وحيوان هائج فى الليل يبحث عن المتاع الحسى الغليظ ، ويبحث عنه أحيانا فى تبذل يتعفف عنه بعض أنواع الحيوان !
وتلك نهاية طبيعية لبعد الناس عن الدين ، وهى تجربة مكرورة فى تاريخ البشرية وإن ظنت الجاهلية المعاصرة أنها تجربة " رائدة " تخوضها البشرية لأول مرة ، لأنهم فى جهالتهم " العلمية " لا يقرأون التاريخ ، أو لا يحبون أن يأخذوا العبرة من التاريخ !
{قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)} [سورة يونس 10/101]
m    m    m

ثم إن الإنسان عابد بطبعه كما بينا فى الفصول السابقة من الكتاب ، فلا تستطيع أن تحول الإنسان من العبادة إلى " اللاعبادة " . إنما تستطيع أن تحوله من نوع من العبادة إلى نوع آخر . وليس الخيار كما خيل للجاهلية المعاصرة بين العبادة وعدم العبادة ، إنما الخيار فقط فى المعبود .. هل يكون هو الله جل جلاله أم يكون شيئا آخر غير الله .
الخيار بالتعير القرآنى الحاسم هو بين عبادة الله وعبادة الشيطان .
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [سورة يــس 36/60-61]
وصراط الله المستقيم واحد ،ولكن سبل الشيطان كثيرة متعددة :
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
والمعبودات فىالجاهلية المعاصرة شتى ،والسبل إليها متعددة ، من عبادة " الدولار " إلى عبادة الهوى والشهوات ، مرورا " بالإنتاج " و" المصالح القومية " و" العلم " و" العقل " و" التقدم " و" التطور " و" الحرية الشخصية " و" الطبيعة " و" الإنسانية " .. ولكل معبود من هذه المعبودات تكاليفه والتزاماته التى ينبغى أن تطاع ..
فأين يذهب الإنسان حين يخرج من الدين ، أى من عبادة الله ؟
تقول الجاهلية المعاصرة إنه " يتحر " من " القيد " .
نعم ! يتحرر من " القيد الإنسانى " ليقع فى قيود الحيوان !
فالقضية كما قلت مرة فى كتاب " فى النفس والمجتمع " ليست خيارا بين القيد والحرية كما يتوهم الناس لأول وهلة حين ينفلتون من الدين والقيم المصاحبة له . إنما الخيار هو بين قيد من نوع معين يصاحبه نوع معين من الحرية ، وبين حرية من نوع آخر يصاحبها نوع آخر من القيود . قيد الإنسان ومعه حرية الإنسان ، أو حرية الحيوان ومعها قيد الحيوان " [38]" .
الدين قيد لا شك فيه ، لأنه التزام بما أنزل الله .. قيد على شهوات النفس ، وقيد على أهواء الإنسان .. ولكنه فى الوقت ذاته يحرر الإنسان من ضغط الشهوات وثقلة الأرض والخضوع المذل للقوى التى تقهر الإنسان فى الأرض ممثلة فى بشر يستبدون بالبشر ، أو ضغوط مادية واقتصادية تسحق كرامة الإنسان .
والانفلات من الدين والقيم المصاحبة له هو " تحرر " دون شك . تحرر من القيود التى فرضها الله على الإنسان فى تصرفاته ، والحدود التى رسمها للناس وقال لهم : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [سورة البقرة 2/229] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [سورة البقرة 2/187]. ولكنه فى الوقت نفسه يمسك الإنسان من خطامه ، ويجره من حبل الشهوات أو من حبل الضغوط القاهرة فلا يملك ألا يستجيب !
وحين انفلت الناس فى الجاهلية المعاصرة من قيد " الدين " فقد وقعوا فى عبوديات لا حدود لها ، سواء للحاكمين عليهم ، الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، فيتخذون من أنفسهم أربابا يشرعون للناس ، ويخضعونهم لهم بالسطان القاهر ، أو لشهواتهم التى لا يملكون الفكاك منها ، أو لأعراف وقيم وموازين ما أنزل الله بها من سلطان ، كلها تهبط بالإنسان من مكانه الكريم الذى كرمه الله به يوم خلقه ، وتمرغه فى الأوحال .
فهل هذه هى " الكرامة " التى يحققها الإنسان لنفسه حين يتمرد على الدين ويخرج من عبادة الله ؟
كلا ! وما تستطيع البشرية أن تستمر فى الحياة على هذه الصورة .
فمن ناحية تظل أمراضها الرئيسية تتضاعف لأنها تعرض عن تناول الدواء .
ومن ناحية أخرى تصيبها السنة الحتمية التى لا تتبدل ولا تتخلف ولا يتغير مجراها على مر الدهور :
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [سورة الأنعام 6/44-45]
ولقد مضت السنة الربانية مع أوروبا فى جاهليتها المعاصرة خطوة خطوة : نسوا ما ذكروا به ففتح عليهم أبواب كل شئ ، من قوة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية وسياسية .. الخ ففرحوا بما أوتوا ن أى طغوا الأرض بغير الحق ، ولم تبق إلا الخطوة الأخيرة حتى تتم السنة بتمامها ، وهى أخذهم بغتة إذا أصروا على ما هم فيه . والبغتة هى دائما بغتة وإن رأى بعض الناس بوادرها وتوقعوا حدوثها .
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} [سورة النحل 16/45-47]
" والعقلاء " فى الجاهلية المعاصرة بدأوا يتخوفون على أقوامهم من الدمار المؤكد إن لم يغيروا حياتهم من قواعدها .
قال الفيلسوف الإنجليزى المعاصر " برتراند رسل ط فى تصريح له :
" لقد انتهى العصر الذى يسود فيه الرجل الأبيض .. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانونا من قوانين الطبيعة " [39]"  واعتقد أن الرجل الأبيض لم يلقى أياما رضية التى لقيها خلال أربعة قرون .. " "[40] "
وقال " جون فوستر دالاس " وزير خارجية أمريكا فى كتاب " حرب أم سلام " :
" إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطئ فى أمتنا ، وإلا لما أبحنا فى هذا الحرج ، وفى هذه الحالة النفسية . ولا يجدر بنا أن نأخذ موقفا دفاعيا (لعله يقصد تبريريا) وأن يتملكنا الذعر .. إن ذلك أمر جديد فى تاريخنا!
" إن الأمر لا يتعلق بالماديات ، فلدينا أعظم إنتاج عالمى فى الأشياء المادية . إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوى . فبدونه يكون ما لدينا قليلا .. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم ، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم ، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم ، أو القنابل مهما بلغت قوتها ! فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا .
" وفى بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحى اللازم للدفاع عنها . وهناك حيرة فى عقول الناس وتأكل لأرواحهم . وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادى كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن ولن تستطيع أى إدارة لمكافحة التجسس أن تقوم بحمايتنا فى هذه الظروف " " [41] " .
وقال " ألكسيس كاريل " فى كتاب " الإنسان ذلك المجهول " :
" إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التى تتعلق بالكائنات الحية فى عصرنا . فقد بدأنا نردك ممدى ما فى حضارتنا من ضعف .. وكثيرون يرغبون فى أن يلقوا عنهم التعاليم التى فرضها عليهم المجتمع الحديث . ولهؤلاء أكتب هذا لكتاب .. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشرى " (ص 11 12 من الترجمة العربية لشفيق أسعد فريد).
" إن الحضارة الغربية تجد نفسها فى موقف صعب لأنها لا تلائمنا . فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقة ، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم . وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجوداتها إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا .. " (ص 38) .
" يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شئ ، ولكن الواقع هو عك ذلك . فهو غريب فى العالم الذى ابتدعه ، وأنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه ، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته . ومن ثم فإن التقدم الهائل الذى أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التى عانت منها لإنسانية .. فالبيئة التى ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا .. إننا قوم تعساء ، ننحط أخلاقيا وعقليا .. إن الجماعات والأمم التى بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هى على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة فى الضعف ، والتى ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من غيرها إليها .. ولكنها لا تدرك ذلك ، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التى شيدها العلم حولها .. وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التى سبقتها أوجدت أحوالا معينة لحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة ، وذلك لأسباب لا تزال غامضة .. إن القلق والهموم التى يعانى منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. " (ص 44) .
" الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة ، وعادات الحياة واتفكير التى يفرضها عليه المجتمع العصرى .. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات فى حسه وشعوره .. وعرفنا أنه لا يستطيع تكييف نفسه بالسنبة للبيئة التى خلقتها " التكنولوجيا ط وأن مثل هذه البيئة تؤدى إلى انحلاله ، وأن العلم والميكانيكا ليسا مسئولين عن حالته الراهنة ، وإنما نحن المسئولون لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع .. لقد نقضنا قوانين الطبيعة " [42]" فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى . الخطيئة التى يعاقب مرتكبها دائما .. إن مبادئ " الدين العلمى " و" الآداب الصناعية " قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة " البيولوجية " . فالحياة لا تعطى إلا إجابة واحدة حينما تستأذن فى السماح بارتياد " الأرض المحرمة " .. تضعف السائل ! ولهذا فإن الحضارة آخذة فى الانهيار .. " ص 322 " " [43] " .
ولكن تخوف هذه القلة القليلة من " العقلاء " فى خضم الجاهلية المجنونة لن ينقذها من الدمار إلا أن تصيخ لصوت العقل وتعود إلى الله !
m    m    m

ولقد كان الدين الذى انسلخت منه الجاهلية المعاصرة دينا فاسدا ، لأنه من صنع البشر .. دينا لا يصلح للحياة . ولقد كانت وهى تنسلخ منه على مشارف الرشد .. ولكنها ضلت الطريق ..
وعلى البشرية اليوم إن أرادت النجاة من الهاوية المحتومة أن تبحث عن الدين الحق . الدين الذى يؤمن العقيدة الصحيحة فى الله ، والمنهج الصالح للحياة .
الدين الذى لا يوجد فصاما مصطنعا بين الإيمان بالغيب والإيمان بالمحسوس . بين الإيمان بالعقيدة والإيمان بالعلم . بين نشاط الروح ونشاط الجسد. بين الدنيا والآخرة . بين لعمل والعبادة . بين التقدم المادى والحضارى والالتزام بالقيم " الإنسانية " .. ولا بين أى جانب من الكيان البشرى السوى وجانب آخر .
الدين الذى يقيم حضرة " إنسانية " متكاملة لنه يأخذ الإنسان كله ولا يهمل جانبا منه . لا يهمل قبضة الطين من أجل إشراقة الروح ، ولا يهمل إشراقة الروح م، أجل قبضة الطين . ولا يهمل عمارة الأرض فى جميع جوانبها وأشكالها من أجل الفوز بالخلاص فى الآخرة ، ولا يهمل أمر الخلاص فى الآخرة من أجل عمارة الأرض . لا يهمل المشاعر الدينية الشفافة الرفيعة المرفرفة من أج النظر العلمى والتجربة العلمية ، ولا يهمل النظر العلمى والتجربة العلمية من أجل شفافية المشاعر الدينية . لا يهمل القيم الخلقية من أجل " النجاح " فى الأرض ، ولا يهمل النجاح فى الأرض من أجل القيم الخلقية ..
الدين الذى يؤمن العدل السياسى والعدل الاجتماعى والعدل الاقتصادى ، والذى يؤمن فى الوقت ذاته التجدد والنمو فى الحياة البشرية .
الدين الذى ينشئ الحضارة التى تليق بالإنسان ، الذى صوره الله فى أحسن صورة ، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق :
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)} [سورة غافر 40/64]
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
ولن يكون هذ الدين إلا الإسلام ، فهو عند الله هو الدين :
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [سورة آل  3/19]
وهو الذى تمت به نعمة الله على البشر واكتمل به شرع الله ومنهجه :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة 5/3]
وهو الذى يشهد واقعه وقت أن طبق فى عالم الواقع أنه أنشأ تلك الحضارة " الإنسانية " المتكاملة التى شملت كل جوانب الحياة وكل جوانب النفس البشرية . والتى كانت للإنسانية كلها نورا وهداية ، والتى استمدت منها أوروبا العلم والحضارة حين انبعثت بعد احتكاكها بالمسلمين تطلب النهوض .
وحين تعتنق أوروبا هذا الدين فلن تحتاج أن تتخلى عن شئ من تقدمها العلمى والمادى ولاتكنولوجى ، ولا شئ من عبقريتها التنظيمية ، ولا شئ من جلدها الدؤوب على العمل والإنتاج ، وهى العوامل التى حفظت لها بقاءها حتى هذه اللحظة ، وإن كانت كما أشار جون فوستر دالاس لا تستطيع أن تحميها من الدمار الحتمى الذى يجره عليها غياب " الروح " ..
كلا ! لا تحتاج أن تتخلى عن شئ من ذلك ، إنما تحتاج فقط أن تقيم ذلك لكه علىق اعدته الصححية ، وهى الإيمان باله وتطبيق منهجه فى الأرض ، كما تحتاج أن تتخلى عن عبوديتها للمادة وعبوديتها للشهوات .
m    m    m

والمسلمون بطيبعة الحال يحملون المسئولية الكبرى فى هذا الشأن ، فهم الذين أخرجهم الله ليكونوا هداة البشرية فى الحياة الدنيا ، والشاهدين عليها يوم القيامة :
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل  3/110]
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل  3/104]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
ولن يكونوا شهداء على الناس يوم القيامة حتى يؤدوا الشهادة فىالدنيا لهذا الدين ، بإقامته فى الأرض كما أمر الله ، والدعوة إليه كما أمر الله ، فتقوم الحجة على الناس إن قبلوه فقد اهتدوا ، وإن اعرضوا فقد أعذرت الأمة الإسلامية إلى ربها ، ويوم القيامة يشهدون على الناس أمام ربهم : لقد اقمنا الدين على الأرض كما أمرتنا ، ودعونا الناس إليه كما أمرتنا ، فاعرضوا فحق عليهم الجزاء ..
والمسلمون اليوم فى حضيض من الذلة ولاهوان والضعف والتلخف لم يهبطوا إلى مثله فى تاريخهم كله بسبب تخلفهم عن هذا الدين ، وإضاعة عقائده وأحكامه ، والغفلة عنه ، والتفريط فيه .
ولكنهم يحملون مسئوليتهم مع ذلك .. مسئوليتهم نحو أنفسهم ، ومسئوليتهم نحو البشرية ، لا يعفيهم منها كل ما وقعوا فيه من الهوان والذلة ، بل إن ذلك كله ليضاعف مسئوليتهم ، فإنهم ما وقعوا فيه إلا تفريطهم فى هذا الدين الذى قال الله فيه :
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [سورة الزخرف 43/43-44]
فماذا هم قائلون لربهم غدا حين يسألهم ؟!
وأى وزر يحملونه إذا احتاجت إليهم البشرية غدا فلم تجدهم فى المكان الذى ينبغى أن يكونوا فيه ، مكان الأمة التى تحمل الهدى الربانى وتبينه للناس ؟!
فأما الله سبحانه وتعالى فلن يعجزه تخاذل الذين يحملون اسم الإسلام اليوم وهم غافلون عنه ، إذا أراد أن يهدى البشرية غدا إلى الدين الحق ، فقد قال سبحانه يحذر المسلمين من قبل :
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سورة محمد 47/38]
فإذا أراد الله للبشرية الهدى فسيقيض لهذا الدين من يحمله وينافح عنه كما قال سبحانه :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [سورة المائدة 5/54]
وإنا لنرى بواكير هذا الفضل الربانى فى حركات البعث الغسلامى التى تنبعث اليوم من كل مكان فى الأرض ، تسعى إلى تحقيق الغسلام فى الواقع ، وتجاهد فى سبيل الله لا تخاف لومة لائم ، وتتعرض لأبشع ألوان التعذيب الوحشى ، ثم تظل صامدة فى سعيها إلى إقامة هذا الدين فى الأرض كما أمر الله . كما نرى بواكير هذا الفضل فيمن يدخلون فى هذا الدين فى أوروبا وأمريكا من البيض والسود بعشرات الألوف ويتزايدون على الدوام .
أما البشرية قد بدأت طلائعها على الأقل تضيق بالضياع والحيرة وتتلمس الطريق إلى النور .. والنور هو دين الإسلام .
m    m    m

يقول " توينبى " فى محاضرته التى أشرنا إليها من قبل :
" صحيح أنا لوحدة الإسلامية نائمة . وكلن يجب أن نضع فى حسابنا أن النائم قد يستيقظ إذا ثارت الربوليتاريا العالمية لعالم المتغرب " [44]" ضد السيطرة الغربية ونادت بزعامة معادية للغرب . فقد يكون لهذا النداء نتائج نفسانية لا حصر لها فى إيقاظ الروح النضالية للإسلام ، حتى ولو أنها نامت نومة أهل الكهف ، غذ يمكن لهذا النداء أن يوقظ أصداء التاريخ البطولى للإسلام .
" وهناك مناسبتان تالاريخيتان كان الإسلام فيهما رمز سمو المجتمع الشرقى فى انتصاره على الدخيل الغربى:
" ففى عهد الخلفاء الراشدين ، بعد الرسول حرر الإسلام سورية ومصر من السيطرة اليونانية اغلتى اثقلت كاهلهما مدة ألف عام تقريبا .
" وفىعهد نور الدين وصلاح الدين والمماليك احتفظ الإسلام بقلعته أمام هجمات الصليبيين والمغول .
" فإذا سبب الوضع الدولى الآن حربا عنصرية فيمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخى مرة اخرى .. وأرجو ألا يتحقق ذلك ! " " [45] " .
أما نحن فنرجو أن يتحقق ذلك ! لا على أساس حرب عنصرية كما يقول ، توينبى ، الذى يحصر تصوراته فى حدود التفكير الغربى الضيق الأفقث ، بل على أساس الصراع الصححي بين الحق والباطل الذى قال الله فيه :
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)} [سورة الحـج 22/40-41]
نرجو أن يتحقق ذلك لا بوصفنا مسلمين فحسب ، بل انطلاقا من كل الحب الذى نكنه للبشرية .. لكى تهتدى إلى النور ..
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)} [سورة يوسف 12/21]




" [1] " فى مصر يدرس للتلاميذ الأقباط مبادئ دينهم على يد مدرسين مسيحيين ، وتوضع دروسهم فى الجدول الرسمى للدراسة وتعطى لهم الحرية الكاملة يقولون فى دروسهم كل ما يريدون بلا رقيب عليهم ..
" [2] " وفى مصر يفتح الأقباط بجانب الدروس الدينية الرسمية التى يتلقونها فى مدارس الدولة مدارس دينية خاصة تسمى " مدارس الأحد " لا تتعرض لها الدولة أى نوع من التعرض .
" [3] " وفى مصر يتلقى الأقباط المعونات من الدول المسيحية والهيئات والأفراد فلا تسألهم الدولة من أين يأخذون ولا قيم ينفقون .
" [4] " كان " ماجلان " الذى يطلق عليه لقب " الرحالة العظيم " ممن قاموا بغزوة صليبية على افلبين بعد إلحاح شديد على " البابا " أن يأذن له فى فتح تلك البلاد وضمها إلى المسيحية . وقد قتله الأهالى فى المعركة التى جرت على أثر تجرؤه على رفع الصليب عى أرض بلادهم الإسلامية فسموا " المتبربرين " .
" [5] " لا يتسع المجال هنا للتعليق على عنوان الكتاب الذى يقصد به أن الإسلام ليس شيئا ثابتا محدد المعالم ، وإنما هو شئ دائم التغير ! فالإسلام الأول شئ ، وإسلام القرون الوسطى (وهذا عنوان كتاب آخر لنفس المؤلف) شئ آخر ، والإسلام الحديث شئ ثالث ! وهذه القضية ذاتها من وسائل الحرب التى يستخدمها المستشرقون ضد الإسلام !
" [6] " يقصد بهم بصفة خاصة المسلمين المحافظين على إسلامهم .
" [7] " هذا اعتراف من المؤلف بأن الغربيين يسخرون من الأتراك بعد أن تغربوا وتركوا إسلامهم !
" [8] " لاحظ سخرية المؤلف بالأتراك ، مع أنه ينصح الغربيين بعدم السخرية بهم !
" [9] " يلتقى الصليبيون جميعا فى كراهيتهم لهذا " السلاح النفسى " وهو استعلاء المسلم بإيمانه . راجع قوله " جرونيبام " المشار إليها آنفا .
" [10] " وهذا اعتراف بأن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين تصل إلى حد " عدم اللياقة " أى سوء الأدب !
" [11] " يعود إلى سخريته على طريقته الخاصة فيقول إن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين ليس فيها أى تحامل ! يعنى أنهم يستحقون ذلك !
" [12] " أى شعوب ذليلة تابعة مقدر عليها الذل والتبعية لا فكاك لها منها !
" [13] " تعريب الدكتور نبيل صبحى باسم " الإسلام والغرب .. والمستقبل " ص 51 53 .
" [14] " ظهر فى بريطانيا فى أوائل الستينات كتاب بعنوان " معضلة الرجل الأبيض " The White Man's Dilemma شرح فيه مؤلفه موقف الرجل الأبيض من الرجل الملون ، وخلاصة فكرة الكتاب أن الرجل الأبيض يتصايح اليوم بضرورة تحديد نسل الرجل الملون ، ويحاول إقناع الرجل الملون بتحديد نسله بشتى الوسائل على أساس أن أقوات الأرض لا تكفى لمواجهة " الانفجار السكانى " فى المستقبل . ويناقش المؤلف هذا الزعم ، ويثبت أن موارد الأرض لم تستثمر كلها بعد ، فضلا عن أن موارد البحر تعتبر غير مستثمرة أصلا . وأن الأرض بيابسها ومياهها تحمل من الأقوات ما يكفى أضعاف أضعاف العدد الحالى من البشر . ولكن الحقيقة الكامنة وراء هذه الصيحة أن الرجل الأبيض يخشى على سيادته وسيطرته ورفاهيته الناعمة من يقظة الرجل الملون الذى سلب الرجل الأبيض خيراته عن طريق السيطرة والاستعمار . فإذا ظل نسل  الرجل الملون يتزايد بنسبته الحالية بينما نسل الرجل الأبيض يتناقص بسبب عمل المرأة وانشغالها بالمحافظة على رشاقتها وانشغالها بملذاتها عن الحمل والأمومة فسيستيقظ الرجل الملون إلى الحقيقة الواقعة ، وهى أن خيراته التى تشتد حاجته إليها بسبب تزايد أعداده مسلوبة بيد الرجل الأبيض . وعندئذ سيثور على الرجل الأبيض لاسترداد خيراته المسلوبة ، فيفقد الرجل الأبيض سلطانه ورفاهيته .. ومن أجل ذلك ينصحه بتحديد نسله ويخوفه بالجوع !!
" [15] " رواه مسلم .
" [16] " أى حديث مقطوع بصحته .
" [17] " انظر الفصل القادم .
" [18] " هو الإله " آمون " الذى يرمزون له بقرض الشمس .
" [19] " راجع أسطورة " بروميثيوس " سارق النار المقدسة ، وانظر ان شئت ملخصا لها فى كتاب " قبسات من الرسول " .
" [20] " بعض الذين يتمسكون " بالمنهج العلمى " يشككون فى حجية كتاب " البروتوكولات " كوثيقة ، ويضعون فى الاحتمال أن يكون بعض الناس قد تقولوا عليهم ما جاء فى البروتوكولات . ونحن لا نقطع بصحة الكتاب من الناحية الوثائقية البحتة ، ولكن ذلك فى نظرنا لا يؤثر فى صدق ما جاء فى ثنايا الكتاب ! لأنه سواء كان هذا الكلام كلام اليهود بالفعل أو كلام إنسان أتيح له أن يطلع على فكر اليهود ويترجمه فى هذه الصورة ، فإن كل ما جاء فيه قد نفذ بالفعل ! جاء فيه أنهم سينشرون الإلحاد ونشروه . وجاء فيه أنهم سينشرون الشيوعية ونشروها . وجاء فيه أنهم سيضحكون على الأمميين بشعار الحرية والإخاء والمساواة وضحكوا بالفعل . فسواء كان هذا كلامهم أو كان ترجمة أفكارهم فالنتيجة الأخيرة واحدة : أن هذه مخططاتهم وقد نفذوها بالفعل فى غفلة من الأمميين !
" [21] " راجع فصل " دور اليهود فى إفساد أوروبا " فى أوائل الكتاب .
" [22] " انظر أثر الجاهلية الإغريقية فى انحرافات الفكر الغربى .
" [23] " ص 61 62 من الترجمة العربية " ترجمة الدكتور أحمد فؤاد الاهوانى " .
" [24] " انظر إلى أثر الجاهلية الإغريقية مرة أخرى .
" [25] " ص 23 24 من الترجمة العربة .
" [26] " قصة مشهورة لشارل ديكنز ، وكان مستر بكويك بطل القصة " المترجم " .
" [27] " انظر المحاولة الملتوية للتخلص من التحدى القائم فى نشأة الحياة من الموات ، وهو التحدى الذى يؤدى فطرة إلى الإيمان بالله .
" [28] " فيلسوف يوغسلافى من دلماشيا أذاع فى بلاده فلسفة نيوتن " المترجم " .
" [29] " ادنجتون ص 274 .
" [30] " يقصد الدين .
" [31] " ادنجتون ص 303 .
" [32] " تأليف كريسى مويسون ترجمة محمود صالح الفكلى .
" [33] " تأليف جماعة من العلماء ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان .
" [34] " ص 129 ص 130 من كتاب " العلم يدعو للإيمان " .
" [35] " مقتطفات من كتاب " العلم يدعو للإيمان " ص 131 132 .
" [36] " من كتاب " اله يتجلى فى عصر العلم " ص 5 6 .
" [37] " انظر الفصل القادم .
" [38] " انظر ان شئت فصل " القيد والحرية " من كتاب فى النفس والمجتمع .
" [39] " لا يريد الرجل أن يقول " السنن الربانية " فيسميها بفعل الجاهلية قوانين الطبيعة !
" [40] " عن المستقبل لهذا الدين (ص 55) .
" [41] " عن المستقبل لهذا الدين (ص 83) .
" [42] " انظر كيف يتأثر الرجل بالعرف الجاهلى رغم كل ثورته على الجاهلية المعاصرة !
" [43] " عن " المستقبل لهذا الدين " ص 72 75 .
" [44] " يقصد الدول الخاضعة للنفوذ الغربى .
" [45] " ص 73 من الترجمة العربية .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar