Rabu, 28 November 2012




إنهما تختصمان على توزيع " مناطق النفوذ " فى العالم .. أى تختصمان على توزيع " المستضعفين فى الأرض " هل يكونون فى هذا المعسكر أم ذاك المعسكر ، وكلتاهما لا تسمح لأحد من " الخاضعين لنفوذها " أن يتحرر ويقرر لنفسه مصيره .
كيف فعلت روسيا فى المجر حين أرادت الأخيرة أن تختار مصيرها بنفسها وترجع عن الشيوعية عام 1956م ؟ كيف هدمت الدبابات الروسية البيوت على أصحابها تأديبا لهم على تجرؤهم على هذا العمل الشنيع الذى ارتكبوه ؟
وكيف فعلت حين أراد العمل فى بولندا ، الذين تزعم الشيوعية أنها قمت لتحريرهم ورد الحقوق المغتصبة إليهم .. كيف فعلت حين أراد هؤلاء العمال أن يعلنوا أن الشيوعية لم تحقق مطالبهم ، ولم ترد إليهم إنسانيتهم الضائعة ، وأنهم فى ظلها مقهورون مظلومون مسحوقون ،وأن لهم " مطالب " يريدون تحقيقها فى مقدمتها ممارسة الحرية ، والمشاركة فى إدارة دفة الأمور ؟!
أما أمريكا ودورها الاستعمارى ، ودور أجهزتها الخفية فى نشر الفساد فى الأرض عن طريق الانقلابات العسكرية ، التى يختار أصحابها من غلاظ الأكباد قساة القلوب المرضى بجنون العظمة المتعطشين إلى السلطة لينفذوا لها مخططاتها فى إذلال الشعوب وجرها إلى العبودية .. فأمر غنى عن البيان . وإن كان الذى يغيب عن أذهان كثير من الناس مداراة كل من المعسكرين على عميل المعسكر الآخر ومده بالمساعدة حين يكون دوره هو تذبيح المسلمين والقضاء على حركات البعث الإسلامى !
وتلك هى المجتمعات التى قامت فى العالم على أساس قومى .. وإن تسترت أحيانا وراء مختلف العناوين !
m    m    m

إلى هنا كنا نتحدث عن القوميات والوطنيات فى أوروبا ، كيف نشأت وكيف تطورت خلال التاريخ الحديث والمعاصر ، وما كان من آثارها الشريرة فى حياة العالم كله ، حين صارت " المصالح القومية " هى الأصل المعترف به فى حياة الناس ، على حساب القيم والمبادئ وكل ومعنى من معانى " الإنسانية " عرفته البشرية فى يوم من الأيام ..
ولكن هناك جانبا من الموضوع ما زال فى حاجة إلى بيان .. ذلك هو " تصدير " دعاوى القومية والوطنية إلى الشرق الإسلامى !
ولن نتحدث عنا عن " العدوى " التى جاءت إلى المعالم الإسلامى من أوروبا حين ضعف المسلمون وتخلوا عن مقومات حياتهم الأصيلة ، وانبهرا بما عند الغرب ، وتابعوه فى انحرافاته ظنا منهم أن هذا هو الطريق الذى يخلصهم من ضعفهم وتخلفهم .. فذلك مبحث آخر نعالجه فى غير هذا الكتاب " [1]" ولكن نتحدث عن التصدير المتعمد لهذه التيارات من أوروبا إلى العالم الإسلامى .
حين وقع لويس التاسع فى الأسر فى الحروب الصليبية الأولى وسجن فى سجن المنصورة أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب ، جعل يتفكر فى سجنه ويتدبر .. فلما فك أسره وعاد إلى قومه حدثهم بما هداه إليه فكره ، فقال لهم : إن التغلب على المسلمين بالسلاح وحده أمر غير ممكن .. وإن إلى أوروبا إذا أرادت التغلب على المسلمين أن تحاربهم من داخل نفوسهم ، وأن تقتلع العقيدة الإسلامية من قلوبهم .. فهذا هو الطريق !
ووعى الصليبيون المحدثون نصيحة الصليبى القديم حين بدأوا جولتهم الصليبية الثانية ضد العالم الإسلامى . فجاءوا لا بالسلاح وحده كما جاؤوا فى المرة الأولى ولكن بما هو أخطر منه كثيرا وأشد فاعلية ، ذلك هو " الغزو الفكرى " الذى يهدف إلى اقتلاع العقيدة من قلوب المسلمين ، وتحويلهم عن صراط اله المستقيم إلى سبل الشيطان :
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
يقول شاتلييه فى مقدمة كتاب " الغارة على العالم الإسلامى " (تعريب محب الدين الخطيب) :
" ولا شك فى أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ولا يتم ذلك إلا ببث الأفكار التى تتسرب مع اللغات الأوروبية . فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا ، وتتمهد السبيل لتقدم إسلامى مادى ، وتقضى إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التى لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها " .
وقد كانت دعاوى القومية والوطنية المصدرة عن عمد إلى العالم الإسلامى ، من بين وسائل الغزو الفكرى الذى استخدمه الصليبيون المحدثون فى " غزو العالم الإسلامى " كما سمى " شاتلييه " كتابه السالف الذكر " [2] " .
والهدف من ذلك واضح ولا شك .. فطالما كان المسلمون " مسلمين " فسيصعب على الغزاة ابتلاعهم مهما كانوا عليه من الضعف والتخلف . ذلك أن العقيدة الإسلامية عقيدة جهاد . وقد ذاق الفرنسيون فى الشمال الأفريقى وذاق الإنجليز فى الهند وغيرها من أقطار أفريقيا وآسيا من عقيدة الجهاد هذه ما لا يزال عالقا بنفوسهم برغم كل الضعف والتخلف الذى كان عليه المسلمون . فاقتلاع هذه العقيدة واستبدال غيرها بها أمر ذو أهمية بالغة ، وساء من وجهة النظر لصليبية أو من وجهة النظر الاستعمارية البحتة ، فالمسلمون لا يقبلون الاستعمار ولا يرضخون له طالما كانوا " مسلمين " . فإذا اجتمعت وجهة النظر الصليبية ووجهة النظر الاستعمارية تجاه الإسلام كما هو واقع الأمر كانت الرغبة فى اقتلاع هذه العقيدة أكد ، والعمل على استبدال غرها بها أعنف وأشد .
وبالفعل بذرت بذور الوطنية أولا فى العالم الإسلامى . ثم جاء دور القومية بعد ذلك (لظروف سنبينها بعد قليل) فحققت أكثر من هدف فى وقت واحد ..
كان الهدف الأول هو تحويل حركات الجهاد الإسلامى ضد الاستعمار الصليبى إلى حركات وطنية ، كما فعل سعد زغلول فى مصر وغيره من الزعماء " الوطنيين " على اتساع العالم الإسلامى . والحركة الوطنية تفترق عن حركة الجهاد الإسلامى بادئ ذى بدء فى أنها لا تنظر إلى " العدو " على أنه " صليبى مستعمر " ولكن على أنه " مستعمر " فقط .. وفرق واضح فى درجة العداء وطريقة المجاهدة بين أن يكون العدو منظورا إليه على حقيقته ، وبين أن يكون مغلفا برداء الاستعمار فحسب .
والهدف الثانى هو تحويل حركات الجهاد الإسلامى إلى حركات " سياسية " عن طريق تحويلها إلى حركات وطنية .. فالعدو غير قادر على " التفاهم " مع الحركات الإسلامية : لأنه لا سبيل إلى التفاهم معها فى الحقيقة إلا بإخراج ذلك العدو خارج البلاد ، ومن ثم فلا سبيل إلى استعمال " السياسة " من جانب العدو . أما الحركات الوطنية فالتفاهم معها سهل وممكن ! وعود من المستعمر بالجلاء ، ويأتى الوقت الموعود فيتذرع المستعمر بشتى المعاذير لتأجيل جلائه ، ويعطى وعودا جديدة يعتر عنها بدورها إذا جاء دورها .. والساسة " الوطنيون " يغضبون أو يتظاهرون بالغضب لإرضاء الجماهير ! والجماهير تثور ثورة صاخبة لكنها فارغة سرعان ما تنطفى بعد الاستماع إلى خطبة رنانة من الزعيم الوطنى يعد فيها بأنه لم يفرط فى شبر من الأرض ، ولم يرضى بغير " الجلاء التام أو الموت الزؤام " ! " [3]" وبين هذا وذاك تجرى " مفاوضات " بن السياسة والاستعمار تنتهى إلى أشياء تافهة يلعب بها الساسة على عقول الجماهير فيوهمونها أنها " مكاسب وطنية " وقد تنتهى إلى غير شئ على الإطلاق ، ومع ذلك يقول زعيم يعتبر من كبار الزعماء الوطنيين فى العالم الإسلامى فى العصر الحديث وهو سعد زغلول : " خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز ! " ويقول " الإنجليز خصوم شرفاء معقولون " !! وهو شئ ما كان يمكن أن يحدث لو بقيت حركة الجهاد الإسلامية كما كانت فى مبدئها ، ولم تتحول إلى حركة وطنية على يد الزعيم الكبير !
والهدف الثالث هو تيسير عملية " التغريب " من خلال تحويل حركة الجهاد الإسلامى إلى حركة وطنية سياسية .. فحين تقوم حركة الجهاد على أساس إسلامى يكون الباب موصدا تماما بين المجاهدين وعدوهم ، لا يأخذون شيئا من فكره ولا عقائده ولا تقاليده ولا أنماط سلوكه المنافية للإسلام . أما حين يتحول الجهاد إلى حركة وطنية سياسية فالحاجز أرق ، يسمح بالأخذ .. ومعاذير الأخذ كثيرة ، فقد قال " أستاذ الجيل " لطفى السيد : إن الإنجليز هم أولياء أمورنا فى الوقت الحاضر . وليس السبيل أن نحاربهم ، بل السبيل أن نتعلم منهم ، ثم نتفاهم معهم!!" [4]"
وأى شئ تعلم المصريون من الإنجليز ؟ هل تعلموا منهم جلدهم على العمل وانضباطهم فيه ؟ أم تعلموا منهم السكر والعربدة وفساد الأخلاق ؟
إنما يتعلم الأولى " المجاهد " لأن المجاهد يتعلم من عدوه فضائله إن كانت له فضائل ، أما " السياسى " المتسيب فالرذائل أفرب إلى قلبه لأنها سهلة لا تكلف جهدا ولا تحتاج إلى مجاهدة !
وعملية التغريب أو الغزو الفكرى كانت أهم ما يحرص عليه الصليبى المستعمر .. فحين يفقد المسلم شخصيته الإسلامية فإنه يفقد فى الحقيقة نقطة ارتكازه .. ومن ثم فإنه يتهاوى ويضيع .
حين يظل المسلم مسلما فإنه يمكن أن " يستعير " من العالم حوله ما يحس أنه فى حاجة إليه ، دون أن يفقد شخصيته ، ودون أن يفقد استعلاءه الذى يستمده من الإيمان .
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل  3/139]
وذلك ما فعله المسلمون الأوائل حين بدأوا ينشئون حضارتهم ، فقد كانوا فى حاجة إلى أشياء لا سابقة لهم بها وهى عند عدوهم البيزنطى أو الفارسى فلم يجدوا فى أنفسهم حرجا على الإطلاق أن يأخذوا ما يحتاجون إليه من هنا ومن هناك ، ولكن فى استعلاء المؤمن الواثق المطمئن . فأخذوا ما رأوا أنه نافع لهم ، وأعرضوا عن كثير مما وجدوه عند أعدائهم ، لأنهم نظروا إليه بعين المسلم فأنكروه . وهذا يفسر لنا لماذا أخذوا العلوم الإغريقية ولم يأخذوا الأساطير !
أما حين " يستغرب " المسلم فإنه يفقد أول ما يفقد إيمانه بأنه هو الأعلى بعقيدته الصحيحة ونظامه الربانى وأخلاقياته المتطهرة وقياسه كل شئ بالمقياس الربانى .. وينظر إلى عدوه نظرة الإكبار والإجلال ، فينقل عنه كل شئ بلا تحرز ، بل ينقل عنه ما يضر وما يفسد فى حين يعجز عن نقل ما ينفع ، لأنه " واهن " بعد فقدانه الإيمان ، والواهن لا يقدر على بذل الجهد الذى يحتاج إليه تعلم النافع من الأمور " [5] " .
لذلك لم يتعلم " المستغربون " من الغربيين قط قدرتهم الفائقة على " التنظيم " ولا جلدهم الشديد على " العمل " ولا التزامهم الشديد " بالانضباط " فى كل شئ . إنما تعلموا اللهو والعبث والمجون والرطانة بلغة الأعاجم .. وتعلموا أسوأ من ذلك كله التباهى بالانسلاخ من الدين والعرض والأخلاق الدينية المتطهرة من الرجس .
وكان ذلك هو التنفيذ الدقيق لوصية الصليبى القديم للصليبيين المحدثين .
m    m    m

أما القومية العربية فقد كان لها دور أخبث وأشد ..
لقد كنا حتى اللحظة نتكلم عن الصليبى المستعمر ..
ولكن دخل معه  - على نفس خطه عدو آخر ، هو اليهودى المستعمر ، لغرض آخر خاص به ، ولكنه يلتقى معه فى النهاية فى بغض الإسلام ، والرغبة فى القضاء على الكيان الإسلامى .
فى عام 1897 عقد هرتزل ابو الصهيونية كما يسمونه مؤتمره الشهير فى مدينة " بال " بسويسرا ، ذلك المؤتمر الذى قرر فيه زعماء اليهود ضرورة إنشاء الدولة الصهيونية خلال خمسين عاما فى فلسطين .
وذهب هرتزل إلى السلطان المسلم عبد الحميد يعرض عليه كل المغريات التى يطمع فيها حاكم أرضى . ذهب يعرض عليه إنعاش الاقتصاد العثمانى وكان متدهورا بسبب ما تنفقه الدولة لإخماد المناوشات المستمرة التى يقوم بها الأعداء لإحراج الدولة العثمانية أو " الرجل المريض " كما أطلقوا عليها فى أواخر أيامها . ويعرض عليه قروضا طويلة الأجل ويعرض عليه التوسط لدى روسيا وبريطانيا بالكف عن إثارة الأقليات ، فقد كانت  روسيا تتعهد بإثارة الأقليات الأرثوذكسية وخاصة الأرمن وكانت بريطانيا تتكفل ل=بإثارة بقية الأقليات ! وكان ذلك من أشد ما يزعج الدولة ويعرض ميزانيتها للخراب .. وفى مقابل هذا العرض السخى كله طلب هرتزل منح اليهود وطنا قوميا لهم فى فلسطين .
وكان من المتوقع منأى رجل يحرص على الدنيا ، ويحرص على السلطان المستبد " [6]" أن يتقبل العرض ويستجيب للمغريات . ولكن السلطان المسلم رفض ذلك لكه ، وقال لهرتزل قولته الشهيرة " إن هذه ليست أرضى ولكنها أرض المسلمين ، وقد رووها بدمائهم ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها " " [7]".
عندئذ وقعت الواقعة ، ودبر اليهود لخلع السلطان عبد الحميد ، ثم لإزالة الخلافة كلها على يد اليهودى المتمسلم كمال أتاتورك .
وكانت الوسيلة لكل ذلك هى " القومية ".
فاليهود المتمسلمون ، المعروفون بيهود الدونما ، الذين هاجروا من المغرب واستوطنوا البلقان ، كانوا هم المنظمين الحقيقيين لحزب الاتحاد والترقى ، الذى نادى بالقومية الطورانية (وهى قومية الأتراك فى جاهليتهم قبل دخولهم فى الإسلام) ورفع شعار الذنب الأغبر (وهو معبود الأتراك فى جاهليتهم) كما نادى بضرورة " تتريك " الدولة ، أى جعل المناصب فيها وقفا على الأتراك وحدهم . ومعنى ذلك كما حدث بالفعل أن يحس " العرب " أنهم مظلومون فى ظل الحكم التركى وأنهم مهضومو الحقوق .. عندئذ تلقفتهم الصليبية حليفة اليهودية فى الحرب ضد الإسلام فأرسلت إليهم " لورنس " ليؤجج فيهم روح " القومية العربية " ردا على القومية الطورانية .. ويؤلف " الثورة العربية الكبرى " ضد دولة الخلافة !
وببساطة تم الأمر .. فى غفلة من " المسلمين " !
يقول التاريخ إن أول من نادى بالقومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا وانضم إليهم " المسلمون " الذين تربوا فى مدارس التبشير .. ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين الذين لم يجدوا تعارضا بين الإسلام والعروبة على أساس أن العروبة هى عصب الإسلام ، وأن العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى كل البشرية !
والنصارى فى لبنان وسوريا كانوا جزءا من أدوات أوروبا لإزعاج " الرجل المريض " وإرباكه ، بغية تسهيل القضاء عليه وتوزيع تركته بين المتربصين الذين ينتظرون الساعة " العظمى " التى يقضون فيها على بقايا الإسلام .
وما كان نصارى لبنان وسوريا فى تلك الفترة يجرؤون أن يخرجوا على الحكم الإسلامى علانية وبالاسم الصريح للخروج ، فقد كانوا أقلية محوطة بأكثرية مسلمة ، تدين بالولاء القلبى والسياسى لدولة الخلافة ، ولا تتصور لنفسها حكومة غير الحكومة الإسلامية . فلم يكن فى وسع أولئك النصارى أن يقولوا : لا نريد حكم الإسلام علينا ولا نريد حكم الخلافة الإسلامية ! ولذلك كان نشاطهم سريا من جهة ، وباسم غير اسم الخروج على الحكم الإسلامى من جهة أخرى .. كان نشاطهم يقوم باسم العروبة والقومية العربية ، وهو شعار يمكن أن يلتبس فيه الأمر على المسلمين العرب ، ولا يروا لغفلتهم أنه موجه ضد الإسلام .. وضدهم هم !
كانت دعوى القومية الطورنية تحز فى نفوس العرب المسلمين فينفخ الشياطين فى الحزازة لتشتعل . وكان يقال لأولئك العرب المسلمين أنتم أولى بالخلافة من أولئك الطورانيين ! فلماذا تسكتون على الظلم ؟ لماذا لا تثورون وتستقلوا عن الأتراك ؟
وكان عبد الحميد يقظا للعبة كلها " [8]" ولكن أحوال دولة الخلافة يومئذ وأحوال المسلمين جميعا فى العالم الإسلامى ، كانت أضعف من أن تصمد للكيد .. فمضى الكيد فى سبيله حتى بلغ غايته .
" ولسنا هنا نؤرخ لتلك الفترة " [9] " .. إنما نحن نتحدث عن القوميات والوطنيات ، ودورها فى اللعبة التى أريد بها القضاء على الإسلام  ، وإنشاء الوطن القومى لليهود فى فلسطين .
كان عبد الحميد يطارد تلك الجماعات السرية التى تنادى بالعروبة والقومية العربية كما يضيق على النشاط السرى لحزب الاتحاد والترفى ، لإدراكه المقصود من ورائهما ، فيتخذ ذلك ذريعة لمزيد من الكيد ضده ويتهم بالدكتاتورية والطغيان فى داخل تركيا ، وباضطهاد الأقليات خارجها ! وتصنع من هذه وتلك مادة للدعاية ضده ونشر البغض والكراهية له ، تمهيدا لما يخطط من عزله ، عقابا له على عدم موافقته على إنشاء الدولة اليهودية !
وجرت الأمور فى مجراها المقدر فى علم الله ، ولكن بسبب من غفلة المسلمين التى مكنت الأعداء من تنفيذ مخططاتهم ، والله يحذرهم فى كتابه المنزل :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [سورة آل  3/118]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة 5/51]
ومع ذلك التحذير فقد كان مسلمون يتولون اليهود فى حزب الاتحاد والترقى ، ومسلمون آخرون يتولون النصارى فى الجمعيات السرية القائمة باسم العروبة والقومية العربية . ومسلمون آخرون يتولون " لورنس العرب ! " ويتبعونه وهو يدعوهم إلى قتال دولة الخلافة التى ظلت تحميهم من الغزو الصليبى قرابة أربعة قرون !
يقو لورد أللنبى ، قائد الجيش " العربى " الذى حارب الخلافة ! لولا مساعدة الجيش العربى والعمال العرب ما استطعنا أن نتغلب على تركيا !!
ولقد كانت الحرب العظمى الأولى تدبيرا يهوديا نصرانيا للقضاء على دولة الخلافة ، وتقسيم تركة " الرجل المريض " والتمهيد لإنشاء الدولة اليهودية فى الأمد الذى حدده مؤتمر هرتزل سنة 1897م .. فى غفلة من " المسلمين " ! إلى جانب الهدف الآخر الذى تحقق كذلك من تلك الحرب ، وهو القضاء على القومية الألمانية لحساب القومية البريطانية والقومية الفرنسية .. ولكن الهدف الأعظم من هذه الحرب كان ولا شك تدمير الخلافة الإسلامية لحساب اليهود والنصارى مجتمعين ، وحساب اليهود بصفة خاصة !
ووزعت الأسلاب بن بريطانيا وفرنسا ، صديقتى اليهود يومئذ ، ووضعت فلسطين بصفة خاصة تحت الانتداب البريطانى ، والانتداب درجة أسوأ من الحماية ، والحماية درجة أسوأ من مجرد الاستعمار .. كان ذلك بعد وعد بلفور الشهير ، الذى صدر عن وزير خارجية بريطانيا اليهودى " اللورد بلفور " سنة 1917 فى أثناء الحرب ، وبدأت دولة الانتداب فى تنفيذه عقب الحرب مباشرة تحت إشراف المندوب السامى البريطانى اليهودى السير صمويل هور !
وخلال خمسين عاما من مؤتمر هرتزل قامت الدولة اليهودية سنة 1947 " [10] " ولكن الأمر احتاج إلى حرب " عظمى " ثانية !
وسوء كانت الحرب الثانية " طبيعية " نتيجة القهر العنيف الذى وقع على القومية الألمانية من القومية البريطانية والقومية الفرنسية ، ونزوع القومية الأولى للانتقام لنفسها من القوميتين الأخريين كما نعتقد نحن أو كانت تدبيرا خالصا لليهود كما يعتقد " وليم كار " فى كتاب " أحجار على رقعة الشطرنج " " [11] " فقد استغلها اليهود استغلالا واسعا لصالحهم ، لاستدرار عطف العالم كله عليهم بوصفهم من ضحايا النازية ليوافق عن طيب خاطر على سلب العرب جزءا من وطنهم لإقامة الدولة اليهودية فيه . وقد سبقت الإشارة إلى الكاتبة الألمانية التى تقول فى كتابها إن اليهود هم الذين دبروا عملية تعذيب النازى لهم ليتخذوها مادة دعاية لعم على أنهم المظلومون المضطهدون المشردون فى الأرض ، الذين يبحثون عن مأوى يقيهم من التشريد والظلم والطغيان ، وأن حجم التعذيب الذى دبروا له تدبيرا كان أضأل بكثير مما قيل فى الدعاية اليهودية العالمية التى ظلت طيلة سنوات الحرب تجلجل فى كل أرجاء الأرض لتصل إلى الهدف المطلوب .
وأيا كان الأمر فقد تم لليهود ما أرادوا بمناصرة الصليبية العالمية لهم ، وبغفلة المسلمين ..
وقد كان التدبير اليهودى الصليبى ما بين الحربين الأولى والثانية محكما فى الحقيقة .
فقد قسم العالم العربى إلى دويلات ضعيفة مسلوبة القوة لا حول لها ولا طول . فالقوة السياسية والعسكرية ذهبت بذهاب دولة الخلافة وصار حكام تلك الدويلات يعتمدون اعتمادا كاملا على بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود وصارت جيوشها جيوش استعراض وزينة لا جيوش قتال حقيقى ، تعتمد فى سلاحها وذخيرتها اعتمادا كليا على بريطانيا وفرنسا ، واقتصادياتها غاية فى التخلف .. أما شباب الشعوب وهو قوة خطرة إذا وجد التوجيه الجاد فقد سلط عليه " التغريب " يقتلعه من إسلامه ومن روح الجهاد الإسلامية ، وسلطت عليه السينما والإذاعة والمسرح والقصة والصحيفة والشواطئ العارية .. كلها تصب الميوعة فى نفسه وتصرفه عن الاهتمامات الجادة ، وتفسد أخلاقه وتشغله بفتنة الجنس .. فوق انشغال كل بلد بقضاياه ومشاكله الخاصة ، وفوق بذر بذور البغضاء بين كل بلد والآخر حتى لا تجتمع كلها على قضية واحدة ولا أمر واحد مشترك .
وفى ظل ذلك قامت الدولة اليهودية بعد مسرحية " الحرب " ثم الهدنة .. ثم الحرب ثم الهدنة الثانية بعد وقوف الجيوش " المتحاربة " عند خط التقسيم المتفق عليه ! ولكن أمرا حدث لم يكن على خاطر الصليبيين واليهود .. فوجئوا به جميعا مفاجأة لم تكن فى الحسبان .. فقد  اشترك فى القتال فدائيون مسلمون ، يحرصون على الموت حرص أعدائهم على الحياة . وحين عركهم اليهود وعرفوا حقيقتهم ، كانوا إذا جابهوهم يفرون عن مستعمراتهم ، تاركين أسلحتهم وذخيرتهم ومئونتهم لينجوا بجلودهم !
كانت المفاجأة من جهتين ..
فقد كان الصليبيون واليهود يظنون أن الإسلام كله قد شاخ ولم يعد بوسعه أن يخرج مثل هذه العينات من البشر ، وكانت المفاجأة الثانية أنهم ظنوا أن مصر بالذات التى عمل الصليبيون على دك معاقلها الإسلامية منذ وقت مبكر ، منذ الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة نابليون ، لا يمكن أن تخرج هذه العينات الصلبة المستميتة فى القتال بروح جهاد إسلامية خالصة لا يريدون بذلك جزاء ولا شكورا .
عندئذ تقر  أمران فى وقت واحد ..
الأمر الأول ضرورة القضاء على حركة البعث الإسلامى التى أخرجت مثل هؤلاء المجاهدين . والأمر الثانى ضرورة إيجاد بديل من الراية الإسلامية التى أخرجت أولئك المقاتلين وتوشك أن تمتد ظلالها من مصر إلى البلاد العربية الأخرى ..
وكان البديل هو " القومية العربية " .
يقول جورج كيرك " George Kirk" مؤلف كتاب موجز تاريخ الشرق الأوسط " A short History of the Middle East" إن القومية العربية ولدت فى دار المندوب السامى البريطانى !!
ولقد كانت بريطانيا قد فكرت من قبل فى إيجاد " الجامعة العربية " على مستوى الحكومات ، فطار " أنتونى إيدن " وزير الخارجية البريطانى إلى القاهرة عام 1946م ودعا الملوك والرؤساء العرب إلى الاجتماع به هناك ، وعرض عليهم فى الاجتماع فكرة إنشاء الجامعة العربية فى القاهرة لتتبنى قضايا العرب وتدافع عن مصالحهم !! ولكن ذلك لم يكن كافيا ، فقد كان لابد من رفع راية " القومية العربية " على مستوى الجماهير !
فلما ورثت أمريكا بريطانيا وفرنسا بعد الحرب وبسطت نفوذها على " الشرق الأوسط " " [12]" أقامت عن طريق الانقلابات العسكرية زعامات كاملة تدافع عن " القومية العربية " فى الوقت الذى تحارب فيه الإسلام والمسلمين ! وقالت الدعاية التى أقامتها أمريكا وإسرائيل إن أمريكا وإسرائيل لا تخشيان شيئا خشيتهما للقومية العربية ، ولا تخشيان أحدا خشيتهما لزعيم القومية العربية !
وفى ظل القومية العربية التى أقامتها الصليبية العالمية ، توسعت إسرائيل وتوسعت حتى توشك أن تبتلع فلسطين كلها .. وتتطلع إلى المزيد !
لقد كانت " القومية " التى صدرت إلى العالم الإسلامى هى القومية المأكولة لا القومية الآكلة التى قامت فى أصلها هناك !
m    m    m

ليس هنا مجال التفصيل للظروف التى أحاطت " بالمسلمين " وأدت بهم إلى هذا الضياع كله وهذا الهوان .. إنما نقول فى ختام هذا الفصل إن الإسلام لا يعرف تلك الدعاوى الزائفة التى روحها أعداء الإسلام بغية القضاء عليه ، وتشربها " المسلمون " فا غفلتهم ، غافلين عما فيها من السموم .
إن الإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم ، لأن هذا أمر مادى حسى واقع لا سبيل إلى تغييره ، فالذى يولد فى الأرض المصرية مصرى بحكم مولده والذى يود فى الأرض العراقية عراقى بحكم مولده . والذى يولد فى الأرض الباكستانية باكستانى بحكم مولده .. وهكذا .
ولكن الإسلام ينكر أن تكون صلة التجمع شيئا غير الإسلام ! غير العقيدة الصحيحة فى الله ! لا الدم ولا الأرض ولا اللغة ولا " المصالح " الأرضية .
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [سورة التوبة 9/24]
وانظر إلى قصة نوح مع ابنه :
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (47)} [سورة هود 11/42-47]
لقد وعد الله نوحا أن ينجو أهله معه ، إلا من سبق عليه القول :
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)} [سورة هود 11/40]
فلما رأى ابنه فى معزل ناداه ليركب معه سفينة النجاة .. ولكنه عصى وقال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء .. وكانت عاقبته أن غرق مع المهلكين .
ولما قضى الأمر ونجا من نجا وهلك من هلك راح نوح فى مرارة الفقد التى تشوب فرحة النجاة يناجى ربه ، ويسأل عن تفسير ما حدث : لقد وعده الله بنجاة أهله ، وابنه من أهله ، ومع ذلك كان من الهالكين !
وكان الرد الربانى : " إنه ليس من أهلك ! إنه عمل غير صالح " .
ذلك أن الآصرة الحقيقية التى تجعله من أهلك ليست هى رابطة الدم التى تجمع بينه وبينك . إنما هى رابطة العقيدة . وقد رفض الابن أن يكون على العقيدة الصحيحة فانفصم ما بينه وبن أبيه من رباط ، لأنه " عمل غير صالح" !
ذلك هو ميزان الإسلام .
وقد مرت بنا الآية التى تجعل الآباء والأبناء والاخوان والأزواج والعشيرة ، والأموال والتجارة والأرض وهى مقومات القومية كلها فى كفة ، وفى الكفة الأخرى حب اله ورسوله والجهاد فى سبيل الله .. والمفاضلة الكاملة بين هذه وتلك .
وليس معنى ذلك أن الإسلام يحرم كل تلك الروابط !
كلا ! إنما يجيزها كلها حين تقع تحت رابطة العقيدة وداخلها :
{وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال 8/75]
أى حين يكونون كلهم مؤمنين .
أما حين تكون تلك الروابط حاجزا يحجز بين المؤمن والمؤمن بسبب رباط الدم أو اللغة أو الأرض أو المصالح .. فهذه التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوها فإنها منتنة " " [13] " .
فكيف إذا كانت تلك القومية تقول لك فى صراحة إن المشرك الذى يشاركك فى قوميتك أقرب إليك من المسلم الذى ينتمى إلى قومية أخرى !
هذه .. ما ميزانها فى كتاب الله ؟!
m    m    m

الإنسانية
الإنسانية أو العالمية كما يدعونها أحيانا دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين ، ثم تختفى لتعود من جديد ! يا أخى ! كن إنسانى النزعة .. وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء .. دع الدين جانبا فهو أمر شخصى .. علاقة خاصة بينا لعبد والرب محلها القلب .. لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك فى الدين .. فإنه لا ينبغى للدين أن يفرق بين البشر .. بين الإخوة فى الإنسانية ! تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو ولون أو وطن أو دين !
دعوى براقة كما ترى .. يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التى تفرق بين البشر على الأرض . تدعوك لترفرف فى عالم النور .. تدعوك لتكون كبير القلب ، واسع الأفق ، كريم المشاعر .. تنظر بعين إنسانية ـ وتفكر بفكر عالمى ، وتعطى من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء ، بدافع الحب الإنسانى الكبير !
أى رفعة ، وأى سمو ، وأى نبل ، وأى عظمة فى القلب والفكر والشعور !
ولكن مهلا ! انتظر حتى يخفت الرنين الذى تحدثه الكلمات والعبارات وفتش عن الحقيقة بعيدا عن العواطف والانفعالات ، وانظر أين تجد هذه الشعارات مطبقة فى واقع الأرض ؟! هل لها رصيد حقيقى من الواقع أم أنها شعارات زائفة ترفع لأمر يراد ؟!
ثم انظر إلى تلك العبارة الماسونية " اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك " !
ألا ترى شبها بين هذه الدعوة وتلك ؟ أما ترى أنهما قريبتان ؟ بل شقيقتان ؟!
" اخلع عقيدتك على الباب (أى عند دخولك الماسونية) كما تخلع نعليك .. " وادخل بلا عقيدة .. فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدونك .. ليسخروك لمصالحهم !
" الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار " ..
والحمار الآدمى هو ذلك الذى خلع عقيدته على الباب كما يخلع نعليه .. ودخل ، حيث أريد له أن يدخل .. بلا دين ومن ثم بلا أخلاق !
وفى القديم ، حين كان الدين قويا لا يقوون على مواجهته ، لم يكونوا يجرؤون على التلفظ بمثل هذه العبارة ، بل كانوا ينافقون ليصلوا إلى أغراضهم من " إغواء " الآخرين ..
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [سورة البقرة 2/14]
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [سورة آل  3/72]
ولكنهم اليوم آمنون ، فلا حاجة بهم إلى التظاهر بالإيمان بما أنزل هل المؤمنين .. بل إنهم لينشرون الإلحاد اليوم بجسارة فى كل الأرض .. ولكنه بضاعة للتصدير فقط ! يصدرونها للأمميين لإغوائهم عن الدين ، ولكن لا يستخدمونها بين أنفسهم . فالهدف الأخير  من التخطيط كله هو محو كل دين لدى الأمميين ، لكى يبقى اليهود وحدهم فى الأرض أصحاب الدين ! وهم على جبلتهم لا يغيرونها .. يتظاهرون أمام الناس بشئ ، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون !
وهزأة اليوم هى هذه الدعوة : " اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك ! " فإذا صدقها الأمميون وخلعوا عقيدتهم كما يخلعون نعالهم ، فرك الشياطين أيديهم سرورا حين يخلو بعضهم إلى بعض ، قال بعضهم لبعض : إنا معكم ، ما نزال على دين الشياطين .. إنما نحن نهزأ بالأمميين !
والفارق بين دعوى الإنسانية ودعوى الماسونية ضئيل ..
الفارق أنه فى تعبير الماسونية الخشن المتوقح يوضع الدين جنبا إلى جنب مع النعال ، لأن المقبل على الماسونية لا يقبل عليها إلا وقد خلع دينه بالفعل أو أوشك على خلعه ، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه ، بل قد تكون منه موضع ترحيب ! فهى كلمه لتوكيد .. وقد تكون للتهديد ! تهديد من بقيت فى قلبه بقية خفية من بقايا الدين .. فليتنبه وليخلعها قبل الدخول !
أما فى دعوى الإنسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب ، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور ن أو قل إنه يبتلعه وهو أشبه بالمخدور .
ولكن هذا وذاك يدعوك فى النهاية أن تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين ! فإذا فعلت ذلك اجتالتك الشياطين!
m    m    m

ولكن أناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق ، فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التى تنطوى عليها . وقد لا يصدقون أصلا أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين فى الأرض لأمر يراد .
فلندق مؤقت أنها دعوى مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره ، ليلتقى بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذى يحب الخير للجميع ..
فلنصدق ذلك فى عالم المثل .. فى عالم الأحلام .. فما رصيد هذه الدعوى فى عالم الواقع ؟!
ما رصيدها فى العالم الذى تحتاجه القوميات من جانب ، والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب ؟
فلنأخذ مثالا واحد من العالم المعاصر .. منا لمعاملة التى يلقاها المسلمون فى كل مكان فى الأرض يقعون فيه فى حوزة غير المسلمين ، أو فى دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد ..
فلننظر إلى " الإنسانية " التى يعاملون بها و" السماحة " التى يقابلون بها ، " وسعة الصدر " و" حب الخير " الذى ينهال عليهم من كل مكان !
خذ مثال الحبشة ..
يبلغ المسلمون فيها 55% على الأقل من مجموع السكان وذلك قبل ضم إريتريا عنوة إليها ، وإريتريا كلها مسلمون ، فكيف تعاملهم الدولة المسيحية المتسلطة عليهم ؟
لا يوجد فى الدولة وزير مسلم واحد يمثل أغلبية السكان ! ولا موظف واحد من كبار الموظفين ! ومدارس الدولة لا تعلم القرآن لأبناء المسلمين ولا تلقنهم مبادئ دينهم " [14]" ، وحين يفتح المسلمون " كتاتيب " لتعليم القرآن لأبنائهم على نفقتهم الخاصة ، تظل الدولة تفرض عليها من الضرائب ما يثقل كاهلهم حتى يغلقوها ! " [15] " ويحرم عليهم أن يتلقوا أى معونات من المسلمين من الخارج ! " [16] " وإلى عهد غير بعيد كان المسلم الذى يستدين من مسيحى حبشى ويعجز عن وفاء دينه يسترق لدائنه ! ووقف هيلاسلاسى عام 1962 فى هيئة الأمم فألقى خطابا " ضافيا " أعلن فيه أنه فى خلال اثنى عشر عاما لن يكون فى الحبشة إلا دين واحد ! ولم يرتفع صوت واحد فى تلك " المؤسسة الإنسانية " يستنكر ذلك التصريح !
والفلبين كانت ذات يوم أرضا إسلامية فغزاها الصليبيون " [17] " وحكموها قهرا عن أصحابها ، فكيف عاملوا المسلمين فيها ؟
لقد ظلوا يطاردونهم ويخرجونهم من أرضهم وديارهم وأموالهم حتى حصروهم فى قطاع من أصل أرضهم ، ثم سموهم " متمردين " فاستباحوا لأنفسهم قتلهم ، قتالهم ، وتحريق مزارعهم ، بل تحريقهم هم أنفسهم شفاء للحقد الصليبى المتأصل فى نفوسهم ..ولا يتحرك واحد فى الأرض كلها ليرد البلاد عن المسلمين ، ويكف عدوان المعتدين !
والهند حكمها المسلمون ثمانية قرون فلم يكرهوا أهلها على الإسلام ، ولم يضطهدوهم وهم يعبدون البقر ويعبدون الأوثان ، فلما حكمها الهنود فانظر كيف يعاملون المسلمين :
لا تنقطع أخبار " الشغب " كما تسميه الدولة والصحافة .. وخلاصتها أن يهجم الهندوس على القرى الإسلامية فيحرقوها على أصحابها ويقتلوا منها من تطوله أيديهم .. فيحتج المسلمون ، ويخرجون لرد العدوان فتعتقلهم الشرطة بتهمة إثارة الشغب وتودعهم فى السجون ! هذا وحكومة الهند حكومة " علمانية " أى أنها لا تقيم حكمها على الدين ، ولا تتعرض لأصحاب الدين ! ومن سنوات غير بعيدة صرح نهرو تصريحا عجبا قال فيه إن تقرير المصير حق لكل الناس .. إلا فى كشمير ! ! ولم يستنكر ذلك أحد فى العالمين!
وفلسطين ظلت أربعة عشر قرنا من الزمان أرضا إسلامية .. ثم جاء اليهود ليقيموا عليها دولة يهودية .. ولم يستنكر أحد من " الإنسانيين " طرد السكان الأصليين وإجلاءهم عن أرضهم بالقنابل والمدافع ، بل يشق بطون الحوامل والتلهى بالتراهن على نوع الجنين كما فعلت العصابات اليهودية التى كان رأس إحداهما مناحم بيجن .. وإنما استنكرت من المسلمين أن يطالبوا بأرضهم ، وألا يخلوها عن طيب خاطر للغاصبين !
ويطول الأمر بنا لو رحنا نستعرض أحوال المسلمين الواقعين فى قبضة غير المسلمين ، أو الذين يتعرضون لعدوان غير المسلمين فى كل مكان فى الأرض .. فى روسيا الشيوعية التى قتلت ما يقرب من أربعة ملايين من المسلمين ، وفى يوغسلافيا التى قتلت ثلاثة أرباع مليون منهم ، وفى أفغانستان التى تستخدم فيها الأسلحة المحرمة " دوليا " و" قانونيا " و" إنسانيا ! " وفى أوغندا ، وفى تنزانيا ، وفى .. وفى .. وفى .. وفى..
فما بال " الإنسانيين " ؟ ما بالهم لا يتحركون ؟! ما بالهم لا يصرخون فى وجه الظلم الكافر الذى لا قلب له ولا ضمير ؟!
إنما توجه دعوى " الإنسانية " فقط ضد أصحاب الدين !
فمن كان متمسكا بدينه فهو " المتعصب " " ضيق الأفق "الذى يفرق بين البشر على أساس الدين ، ولا يتسع قلبه " للإنسانية " فيتعامل معها بلا حواجز فى القلب أو فى الفكر أو فى السلوك !
أو قل على وجه التحديد إن الذين يحاربون اليوم بدعوى " الإنسانية " هم المسلمون !
يحاربون بها من طريقين ، أو من أجل هدفين : الهدف الأول هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه ، الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به فى كل الأرض ، لكى تنبهم شخصيته وتتميع ؛ والهدف الثانى هو إزالة روح الجهاد من قلبه .. ليطمئن الأعداء ويستريحوا !!
فى الهدف الأول المستشرق النمساوى المعاصر " فون جرونيباوم Von Grunebaum " فى كتاب له يسمى " الإسلام الحديث " " [18]"  Modern Islam " إن الحاجز الذى يحجز المسلم عن " التغريب Westernization  " هو استعلاؤه بإيمانه ، وإنه لابد من تحطيم ذلك الحاجز لكى تتم عملية التغريب!
أرأيت ! إنه هدف مقصود لذاته .. ألا يشعر المسلم بالاستعلاء بالإيمان ! يراد له أن تذوب شخصيته وتتميع ، ولا تكون لها تلك السمة المميزة التى أرادها الله :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
إن أعداء الإسلام لن يستريحوا حتى يزيلوا ذلك التميز الذى يحسه المؤمن :
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة 2/217]
وتلك قضية قديمة عمرها الآن أكثر من أربعة عشر قرنا .. أى منذ وجد المجتمع الإسلامى فى المدينة .. ولكن وسائل القتال تتغير ، ومن بينها اليوم ما نسميه " الغزو الفكرى " ومن بين الغزو الفكرى هذه الدعوى .. دعوى الإنسانية !
فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق : يا أخى لا تعتزل الناس ! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة ، فتعامل مع الأسرة كفرد منها ، ولا تميز نفسك عنها ! وشارك فى النشاط " الإنسانى " و مظاهر الحضارة " الإنسانية " !
ولا نقول لهؤلاء : هل تعاملون أنتم المسلمين كأفراد من أسرتكم " الإنسانية " " العالمية "فتعطونهم حقهم بوصفهم أفرادا فى تلك الأسرة ، فلا تطاردونهم ، ولا تنبذونهم ، ولا تتعصبون ضدهم ، ولا تتجمعون على أذاهم ؟!
لا نقول لهم ذلك لأنه لا فائدة من جدالهم . ولكن نقول " شهد شاهد من أهلها " فهو غير متهم فيما يشهد به ! ذلك هو " توينبى " المؤرخ المعاصر المشهور ، وتعصبه ضد الإسلام والمسلمين أمر كذلك مشهور!
يقول فى محاضرة له باسم الإسلام والغرب والمستقبل بعد أن قسم العالم تجاه عملية " التغريب " إلى متحمسين بغير عقل " [19]" ، ومقلدين بلا تحفظ ، وبعد أن امتدح حركة كمال أتاتورك المقلدة للغرب :
" ويجب على المراقب الغربى أن يراعى حدود اللياقة ولا يسخر " " [20] " لأن ما يحاول (المقلدون) الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه إلى حالة كنا نحن منذ التقاء الغرب بالإسلام ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم . وها هم حاولوا ولو متأخرين إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربى .
" وعندما ندرك تماما هدفهم الذى رموا إليه لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة : هل يبرر هذا الهدف حقا الجهد الذى بذلوه فى صراعهم لبلوغه " " [21] " ؟!
" من المؤكد أننا لم نكن نحب التركى التقليدى المسلم الذى كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من عل على أانا فريسيون زناديق ! ويحمد الله على أنه لم يجعله مثلنا . وبما أن التركى التقليدى القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة ، حاولنا أن نحط من كبريائه بتصوير هذه الطينة الخاصة شيئا ممقوتا وسميناه " التركى النكرة " .. إلى أن استطعنا أخيرا أن نحطم سلاحه النفسى وحرضناه على القيام بهذه الثورة (المقلدة) التى استهلكها الآن أمام أعيننا .. " [22] " .
" والآن ، وبعد أن تغير التركى بتحريضنا ورقابتنا ، وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلا لنا ، وللشعوب الغربية من حوله ، الآن نحس نحن بالضيق والحرج ، بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق ، تماما كما شعر صموئيل عندما اعترف بنو إسرائيل بفظاظة غايتهم ورغبوا فى وجود ملك ..
" لذلك فإن شكوانا الجديدة من الأتراك فى هذا الظرف أمر أقل ما يقال فيه إنه غير لائق " [23] " ، وبإمكان التركى أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ فى نظرنا ..
" على كل حال ، قد يكون انتقادنا للأتراك فظا وغير لائق ، ولكن ليس فيه أى تحامل " [24] " ولا هو خارج عن الموضوع ، إذ ما الذى سيكسبه التراث الحضارى ، فى حالة عدم ذهاب جهود الأتراك سدى ؟ أى فى حالة نجاحهم فرضا النجاح المرجو ؟ وهذه النقطة تكشف حركة المقلدين عن نقطتى ضعفها الأصيلتين فيها :
" أولاهما : أن الحركة مقلدة متبعة ، وليست مخترعة ، لذا ففى حالة نجاحها جدلا لن تزيد إلا فى كمية المصنوعات التى تنتجها الآلة فى المجتمعات المقلدة ، بدل أن تطلق شيئا من الطاقة المبدعة فى النفس البشرية .
" وثانيهما : فى حالة النجاح الباهت المفترض هذا ، وهو أقصى ما يمكن للمقلدين الوصول إليه ، سيكون هناك خلاص مجرد خلاص لأقلية ضئيلة فى أى مجتمع تبنى طريقة التقليد ، لأن الغالبية لا تأمل فى التحول إلى أعضاء فى الطبقة الحاكمة للحضارة المقلدة ، ومال هذه الغالبية هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة المقلدة .
" كانت ملاحظة موسولينى ملاحظة حادة عندما قال : هناك شعوب بروليتارية " [25]"  مثلما هناك طبقات بروليتارية وأفراد بروليتاريون " [26] " .
تلك هى القضية ! إن تمسك المسلم بإسلامه شئ يغيظ أعداء الإسلام بصورة جنونية .. ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه (ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية) فإذا تميع بالفعل ، ولم تعد له سمته المميزة له ، احتقروه كما احتقرت أوروبا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم و" فرنجهم " و" غربهم " ! بينما يقول أحد المبشرين فى كتاب " الغارة فى العالم الإسلامى " إن أوروبا كانت تفزع من " الرجل المريض " (وهو مريض) لأن وراءه ثلثمائة مليون من البشر مستعدون أن يقاتلوا بإشارة من يده " [27] " وهذا النص الأخير يدخل بنا إلى النقطة الثانية أو الهدف الثانى من استخدام دعوى " الإنسانية " فى محاربة المسلمين .
إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه !
وقد مر بنا فى الفصل الماضى كلام المستشرق الكندى المعاصر " ولفرد كانتول سميث " الذى يقرر فيه أن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذى ظلت تزاوله عدة قرون من الفتح الإسلامى ، وأن هذا الفزع لا يدانيه شئ فى العصر الحديث ، وال فزع أوروبا من استيلاء الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا سنة 1948 !
وهذا هو المستشرق الأمريكى " روبرت بين Robert Payne يقول فى مقدمة كتابه السيف المقدس The Sacred Sword :
" إن لدينا أسبابا قوية لدراسة العرب والتعرف على طريقتهم . فقد غزوا الدنيا كلها من قبل . وقد يفعلونها مرة ثانية ! إن النار التى أشعلها محمد ما تزال تشتعل بقوة ، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء " !
ولنترك المستقبل لعلم الله .. فما ندرى ماذا يكون من  أمر المسلمين غدا . ولكنا ننظر إلى الحاضر ذاته فنلمح السبب فى فزع أعداء الإسلام من روح الجهاد الكامنة فيه ..
إن أوروبا لم تتضخم كما تضخمت اليوم ، ولم تصل إلى الرفاهية الناعمة التى تعيش فيها إلا باستعمار العالم الإسلامى ونهب خيراته واستعباد أهله وإخضاعهم لنفوذها . فماذا يكون إذا استيقظت فى المسلمين روح الجاد فطردوا ذلك الاستعمار بكل أنواعه اخفية والظاهرة ، العسكرى منها والسياسى والاقتصادى ، واستردوا سيادتهم على أرضهم وأرواحهم وأفكارهم وضمائرهم ؟!
ماذا يحدث لأوروبا لو تم ذلك ؟ ومن أين لها الرفاهية الناعمة التى تعيش فيها اليوم ، إذا احتفظ المسلمون بخيراتهم لأنفسهم ، أو باعوها لأوروبا بيعا حرا بالسعر الحقيقى الذى تستحقه فى التجارة الحرة المتكافئة ؟ ومن أين لها التضخم الذى تمارسه اليوم ، سواء التضخم العسكرى أو العلمى أو المادى ، إذا انحسرت مواردها وكسدت بضاعتها التى توزعها اليوم على " المتخلفين " وتربح فيها بغير حساب ؟!
كلا ! ما يحب أعداء الإسلام قط أن تستيقظ روح الجهاد الكامنة فيه ، ولو لم يتحقق شئ من كلام روبرت بين ، الذى يزعج به أعصاب الغرب ليشتدوا فى الضغط على المسلمين ولا يتيحوا لهم أى فرصة لنهوض .. أو على وجه التحديد لا يتيحوا لهم أى فرصة للرجوع إلى حقيقة الإسلام التى فقدوها بعملية " التغريب " !
ودعوى الإنسانية من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين .
يا أخى ! لقد تغيرت الدنيا ! لا نتكلم عن الجهاد ! أو إن كنت لابد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعى فحسب ! ولا تتكلم عنه إلا فى أضيق الحدود ! فهذا الذى يتناسب اليوم مع " الإنسانية المتحضرة " ! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت ! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة ! وهناك قانون دولى وهيئات دولية تنظر فى حقك وتحل قضاياك بالطرق " الدبلوماسية " ! فإذا فشلت تلك الهيئات فى رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادا ! .. فالجهاد قد مضى وقته ! إنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة !!
أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد ! هناك اليوم وسائل " إنسانية " لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت .. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدرس .. إياك إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة فى أفواه المتحضرين !
ولا نقول لهؤلاء : أين هى الهيئات الدولية فى قضية فلسطين ؟ وفى قضية الفلبين ؟ وفى قضية كشمير ؟ وفى قضية أفغانستان ؟ وفى كل قضية كان المسلمون طرفا فيها ؟ أين هى الحقوق التى ترد بالطرق الدولية أو العدوان الذى يصد ؟!
ولا نقول لهم : ما قيمة هذه الهيئات الدولية والقانون الدولى وكل الإجراءات الدولية ، إذا كان هذا القانون يعترف رسميا بأن هناك جبابرة خمسة فى الأرض هم الحق الشرعى ! ! أن يوقفوا أى إجراء لا يوافق أهواءهم ومطامعهم العدوانية مهما يكن عادلا فى ذاته عن طريق " الفيتو " (حق الاعتراض ) ؟!
لا نقول لهم ذلك لأنه ا فائدة من جدالهم ! إنما نقول لهم إن إسرائيل تضرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلسي الأمن عرض لحائط ، وتعلن فى تبجح وهى المعتدية دائما أنها لن تخضع لهذه القرارات ولن تلتزم بها ، ولا يتحرك " الإنسانيون " لتأديبها .. إنما يشهر سلاح ط الإنسانية " فى وجه المسلمين فقط حين يطالبون بحقهم المشروع!
m    m    m

الإسلام دين الله صريح غاية الصراحة ، حاسم كل الحسم ، لا يداور ولا يناور ، ولا يتاجر بالشعارات .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [سورة التغابن 64/2]
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر 39/9]
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [سورة فاطر 35/19-22]
ويقرر فى صراحة حاسمة أن ولاء المسلم هو لله ولرسوله وللمؤمنين ، ويحرم الولاء فيما وراء ذلك :
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا....} [سورة المائدة 5/55]
{لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل  3/28]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة 5/51]
ويقرر فى صراحة حاسمة كذلك أن الجهاد لنشر الدعوة ماض إلى يوم القيامة :
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
ولكنه لا يقاتل من أجل فرض عقيدته على الناس وهم كارهون . إنما يقاتل كما قلنا من قبل لإزالة القوى الجاهلية التى تمنع وصول الحق للناس دون حواجز نفسية أو حسية مادية ، ممثلة فى نظم جاهلية لها فى حس الناس ثقل " الأمر الواقع " وجيوش ودول تحمى تلك النظم الجاهلية وتعطيها ثقلها فى الأرض ، فإذا أزيلت الحواجز فلا إكراه فى الدين :
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ...} [سورة البقرة 2/256]
إنما يقام العدل الربانى ليستمتع به الناس ويعيشوا فى ظله ولو كانوا لا يعتنقون عقيدة الإسلام .
وقد فتح المسلمون مصر وكان سكانها على دين النصرانية ، فلم يكرههم السلمون على اعتناق الإسلام . ولو كان هناك إكراه ما بقى الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة !
إنما أقام المسلمون العدل الربانى كما أمرهم الله فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التى سلبهم إياها حكامهم الرومان وهم على نفس الدين ولكن على مذهب مخالف . فقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم فى المذهب فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان ،ولا يجدون ملجأ يلجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة . فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك . وقصة القبطى الذى ذهب إلى المدينة ليشكو إلى عمر بن الخطاب ضربة العصا التى وقعت على ظهر ابنه من ابن عمرو بن العاص شهيرة لا تحتاج إلى إعادة . ولكن دلالتها وضاحة ، فهذا القبطى الذى كان يتلقى سياط الرومان ولا يشكو ولا يثأر لكرامته المسلوبة ، يسافر هذه الرحلة الطويلة طلبا للعدل ، لأن الإسلام رد له كرامته فصار يستنكر الظلم ويطلب العدل ، ولأن الإسلام أوجد له ملجأ حقيقيا يستحقق له العدل فيه فطلبه هناك .
ومن أجل هذا يقاتل المسلمون يقاتل المسلمون ، لا لفرض عقيدتهم ،ولا للتوسع الاستعمارى ، ولا لسلب أقوات الناس والاستئثار بها لأنفسهم ، ولا لأى فائدة أرضية من التى تسعى الدول إليها ، ولكن قياما بأمر الله ، ونشرا لهذا العدل الربانى فى الأرض .
وفتح المسلمون الأندلس ، وظلوا هنالك ثمانية قرون .. فلم يفرضوا عقيدة الإسلام على نصارى الأندلس ، بل دخل منهم من دخل الإسلام حبا فيه وإيمانا بصدقه ، وبقى النصارى نصارى حتى ردوا للمسلمين الجميل بطردهم من الأندلس مع التعذيب والتنكيل والتشريد على أبشع صورة وعاها التاريخ . ونشر المسلمون النور فى الأندلس وغيرها من البلاد عن طريق مدارسها وجامعاتها وأساتذتها وكتبها وعلومها وحضارتها ، التى مرت شهادات الشاهدين بها من منصفى الغرب على قلتهم ! وكانت الأندلس هى الملاذ الآمن لليهود والنصارى على السواء ، يشعرون فيها بالأمن الكامل فى ظل الحكم الإسلامى ، بينما أوروبا كلها تضطهد اليهود وتنكل بهم ، وبينما النصارى المخالفون لمذهب الكنيسة يعيشون فى رعب دائم من الإرهاب .
وفتح المسلمون الهند ، وحكموها ثمانية قرون .. فلم يفرضوا العقيدة الإسلامية على الوثنيين الهنود ، بل تركوهم لعقائدهم مع أن فيها ملا يعقله عاقل ، من عبادة للبقر ، وتبرك بروثها وبولها .. وإنما فرضوا عليهم فقط أن يكفوا عن بعض عاداتهم الوحشية التى كانوا يمارسونها من دفن الأرملة حية مع زوجها المتوفى ، أو حرقها حية .. من أجل رفع هؤلاء الناس إلى درجة الآدمية فى بعض تصرفاتهم دون المساس بعقائدهم . وظل الهندوس محافظين على عقائدهم وتقاليدهم فى ظل الحكم الإسلامى حتى تسلموا حكم الهند بمساعدة الصليبيين الإنجليز ، فردوا الجميل للمسلمين بالعدوان المستمر عليهم وتحريق قراهم وتعمد الإثارة الدائمة لهم ، والتهييج الدائم لخواطرهم .
كذلك كان فتح المسلمين للأرض .. ومن أجل هذه المعانى الرفيعة أمرهم الله بالقتال لنشر الدعوة .. ومع ذلك فهم لا يبدأون بالقتال ، إنما يبدأون بعرض الإسلام ، فإن لم يقبل منهم فالجزية ، فإن لم تقبل فالقتال من أجل إخراج الناس من ظلمات الجاهلية وظلمها إلى عدل الإسلام وسماحته ، على النحو الذى تم به الأمر فى واقع التاريخ .
وللحرب مع ذلك تقاليد .. بل قل إنها أخلاقيات الإسلام فى كل شئ حتى مع المشركين المعاندين .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيشه يعلمه أخلاقيات الحرب فى الإسلام " اغزوا باسم الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا مثلوا ولا تقتلوا وليدا .. " الحديث " [28]" .
ثم إن أعطوا الأعداء عهدا أو موثقا فالله يأمرهم أن يوفوا بالعهد ولا ينقضوا الميثاق ن تحت أى ظرف من الظروف ولأى هدف من الأهداف ز فإن خافوا منهم خيانة فلينبذوا إليهم عهدهم علانية ولا يغدروا ولا يفاجئوا عدوهم بالقتال قبل انقضاء العهد :
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} [سورة النحل 16/91-94]
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} [سورة الأنفال 8/58]
ولقد كان معاوية قد أعطى عهدا للروم إلى أمد محدد ، ثم جاءته عيونه تخبره أن القوم يستغلون الهدنة للاستعداد للانقضاض على المسلمين ، فأراد أن يباغتهم ، فاستشار فأبى عليه مستشاروه ، وقالوا له إما أن تنبذ إليهم عهدهم على سواء وإما أن تنتظر إلى نهاية العهد ، والله ينصرك بالطاعة . فانتظر حتى نهاية العهد وانتصر بإذن الله .
ويروى التاريخ كيف غدر الصليبيون بعهدهم مع صلاح الدين وفاجئوا المسلمين الآمنين على بغتة فاحتموا بالمسجد فدخلوا عليهم المسجد وأعملوا فيهم القتل حتى غاصت الخيل إلى ركبها فى الدماء .. فلما دارت الدورة وانتصر صلاح الدين أبى أن ينتقم منهم سماحة ولم يغدر قط بميثاق واحد أعطاهم إياه .
وظل وفاء المسلمين بمواثيقهم فى السلم والحرب مضرب المثل خلال التاريخ ، اتباعا لتعاليم الإسلام ، وتخلقا بأخلاق لا إله إلا الله .
m    m    m

والإسلام صريح فى توجيه اتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية ، التميز بنظافة السمت ونظافة الأخلاق ونظافة السلوك ،والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا أو متعارض مع الإسلام ، حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ :
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل  3/139]
ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال ، وأن المنهج الذى يعيشون به هو المنهج الأعلى لأنه المنهج الربانى، والذى يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى لأنه منهج جاهلى . فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أى معنى من المعانى الأرضية التى تعتز بها الجاهلية وتستعلى بها على الناس . إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الربانى واتباعه ..
ومع ذلك كله فكيف يكون التعامل الإسلامى مع غير المسلمين ؟!
{لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [سورة الممتحنة 60/8]
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [سورة المائدة 5/5]
كما أنه ليس مقتضى التميز والاستعلاء هو " مخاصمة " كل ما يأتى من مصدر غير إسلامى ، إن كان شيئا نافعا فى ذاته ، ولم يكن متعارضا مع الإسلام ، فقد أخذ المسلمون الأوائل من الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية ما رأوه نافعا لهم ولا يتعارض مع عقيدتهم وأخلاقهم وأفكارهم وتصوراتهم الإسلامية . إنما مقتضى ذلك ألا يأخذوا من مصدر غير إسلامى أمرا يتصل بالعقيدة ـأو يتصل بالقيم أو يتصل بالشريعة أو يتصل بالأخلاق لأن مرجعهم فى ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله ، وهو حسبهم وفيه كل ما يحتاجون إليه فى هذه الأمور . أما " الأدوات " الحضارية ، وأما " العلم " وأما " التجارب " النافعة فلا خصومة معها ، ولا عداء ما دامت لا تصادم أصلا من أصول الإسلام .
m    m    m

ذلك هو الواقع الإسلامى .. وخلاصته أن " الإنسانية " الحقيقية " والسماحة " الحقيقة هى الإسلام !
فحيث تكون دعاوى الإنسانية والعالمية والتسامح فى كل النظم مجرد شعارات لا رصيد لها من الواقع ، فإنها فى الإسلام واقع حقيقى ، لا دعاوى ولا شعارات مرفوعة بغير رصيد .
والإسلام دين الله الحق ، وكل أمر فيه بما فى ذلك الجهاد لنشر الدعوة ، والتميز والاستعلاء بالإيمان ،واعتزال أدران الجاهلية وعدم المشاركة فيها هو أمر ربانى ، لم يبتدعه المسلمون من عند أنفسهم ، ولا قاموا به لصالح أنفسهم ، إنما تنفيذا الأمر لأمر الله ، سواء نالهم منه فى الأرض الغنم أو الغرم بالمقاييس البشرية المحدودة إنما يصنعونه ابتغاء مرضاة الله ، وطمعا فى الجزاء فى الآخرة .
ولكن غير المسلمين لا يؤمنون بذلك بطبيعة الحال ، فلا نناقشهم بمنطق الإيمان الذى لا يلزمهم . بل نفترض جدلا أن كل النظم ذات حق متساو فى الوجود وفى الانتشار فى الأرض .. فلننظر فى الواقع التاريخى نظرة " علمية " " موضوعية " " مجردة " . أى النظم مارس حقه فى الوجود وفى الانتشار فى الأرض بروح إنسانية حقيقية ، وأيها مارس الوجود والانتشار بسلوك خال من القيم الإنسانية هابط إلى الحضيض ؟!
فمن كان فى شك فلينظر إلى الواقع المعاصر وما يتم فيه من ألوان من البربرية الوحشية لا تخطر على البال ، وألوان من نقض المواثيق لا تخطر على البال ، وألوان من العبث بكرامات الشعوب والاستخفاف " بحقوق الإنسان " لا تخطر على البال !
وذلك رغم كل الشعارات المرفوعة ، والقيم المسطرة فى ديباجات الدساتير والمعاهدات والمواثيق !
أما الإسلام فلا يداور ولا يناور ، ولا يرفع الشعارات البراقة بلا رصيد . إنما هو رغم الصراحة الحاسمة التى يعالج بها كل أمر ، هو الذى يطبق الروح الإنسانية الحقيقية والتسامح الحقيقى .. ولا عجب فى ذلك ، فإنما هو المنهج الربانى الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الصراط المستقيم الذى لا عوج فيه .
m    m    m

الإلحاد
الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله ، والقول بأن الكون وجد بلا خالق أو أن المادة الأزلية أبدية ،وهى الخالق والمخلوق فى ذات الوقت بدعة جديدة فى الضلالة فيما أحسب ، لم توجد من قبل فى جاهليات التاريخ السابقة ، ومن المؤكد على أى حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذى تمارسه الجاهلية المعاصرة ، فى أى فترة سابقة من فترات التاريخ .
وبعض الناس يشير إلى الآية الكريمة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [سورة الجاثية 45/24] ويستدلون منها على أنه وجد فى الجاهلية العربية (وبالتالى فى غيرها ) من ينكر وجود الله ، وأن هؤلاء الدهريين كما أطلق عليهم هم صنو القائلين بالطبيعة ، المنكرين لوجود الله .
والآية فيما أرى لا تعطى هذه الدلالة بصورة قاطعة ، فإنها تقطع فقط بأن القوم المشار إليهم ينكرون البعث ، ولكنها لا تقطع بأنهم ينكرون وجود الله .
وما لم يثبت من مصدر يقينى " [29] " أنه وجد فى العرب أو فى غيرهم من الأمم من قبل من ينكر وجود الله ، فأغلب الظن عندى أن هؤلاء القوم المشار إليهم فى الآية هم الذين يؤمنون بوجود الله وبأنه هو الخالق المدبر ثم ينكرون قدرته سبحانه وتعالى على بعث الموتى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان 31/25]
{قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ (89)} [سورة المؤمنون 23/84-89]
ومع إقرارهم بذلك كله فقد كانوا ينكرون البعث إنكارا شديدا ويعجبون ممن يقول به : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)} [سورة سبأ 34/7-8]
فتكذيبهم بالبعث لم يكن ناشئا من إنكارهم لوجود الله ، إنما من إنكارهم قدرته سبحانه وتعالى على إحياء " الموتى بعد ان بليت أجسادهم وضلوا فى الأرض : {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة السجدة 32/10]
ولذلك كان الجدل معهم فى هذا الموضوع يدور كله حول معنى واحد هو أن الذى خلق الخلق من العدم أول مرة قادر على أن ينشئهم مرة أخرى :
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [سورة يــس 36/78-83]
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)} [سورة الإسراء 17/98-99]
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [سورة الروم 30/27]
والذين أطلق عليهم اسم " الدهريين " قوم ينكرون البعث إنكارا مطلقا ، ويقولون إن هى إلا حياتنا الدنيا ، أى لا توجد حياة أخرى بعدها . يموت منا من يموت ويحيا منا من يحيا ، وما يهلكنا إلا مرور الزمن . فكلما مر الزمن ماتت نفوس .. ولكن لا بعث وراء ذلك ولا حياة . أما إنكارهم لوجود الله فاستدلال لا تدل عليه الآية دلالة صريحة ولا دلالة لازمة . والقوم إنما نسبوا إلى الدهر أى إلى مرور الزمن أنه هو الذى يهلكهم ، ولكنهم لم يقولوا إن الدهر هو الذى خلقهم أو هو الذى منحهم الحياة . أى أنهم لم يتخذوه إلها بدلا من الله ! وحتى لو فرضنا جدلا بغير دليل يقينى أنهم أنكروا وجود الله ، فليس هناك من يقول إنهم كانوا كثرة يحسب لها حساب نولا إنهم كانوا هم الصورة الغالبة للجاهلية . أما إنكار وجود الله على النحو الذى تتبجح به الجاهلية المعاصرة ، وبالسعة التى تمارس بها ذلك التبجح ، فأمر غير مسبوق فى تاريخ البشرية ..
ذلك ان الفكرة بذاتها تعرف وجود الله ، وتتجه إليه اتجاها فطريا بالعبادة على نحو من الأنحاء ..ولو ضلت الطريق ! ولم يكن الضلال الغالب على البشرية فى جاهلياتها هو إنكار وجود الله ، إنما كان الضلال الغالب هو الشرك ، وتصور الله على غير حقيقته . فقد يتصورون أنه هو الشمس أو هو القمر أو هو النجم أو ما إلى ذلك من المخلوقات . {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [سورة فصلت 41/37]
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)} [سورة النجم 53/49]
أو يتصورونه آلهة متعددة متعادلة فى القوة والسطوة كإله الخير وإله الشر عند الفرس ، يتنازعان أبدا ولا يغلب أحدهما الآخر ، أو غير متعادلة كما كان الرومان والإغريق يؤمنون بوجود إله كبير هو رب الأرباب ، ودونه آلهة شتى ، وكما كان العرب فى جاهليتهم يؤمنون بأن الله هو رب الأرباب الخالق الرازق المهيمن ، وثمة آلهة أخرى يشاركونه فى بعض الأمر فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى :
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر 39/3]
ولم يبعث الله رسولا ولا نبيا ليقول للناس إن هناك إلها ، فالفطرة تعرف ذلك بغير رسول ! ولا ليقول لهم إن هناك إلها فاعبدوه . فالفطرة تتجه بالعبادة تلقائيا إلى الإله الذى تعتقد بوجوده بغير رسول ! فقد أودع الله ذلك كله فى الفطرة والبشر ما زالوا فى عالم الذر :
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
إنما الذى أرسل به الرسل جميعا هو " التوحيد " .
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد 47/19]
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة هود 11/61]
وذلك لتصحيح مسار العقيدة وتقويم الفطرة مما تقع فيه من الضلال ، لا لإنشاء العقيدة ابتداء وإثبات وجود الله :
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30]
نعم .. تعرف الفطرة بذاتها وجود الله ، وتتجه إليه بالعبادة منذ أن أخذ الله من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم ..
ولا ندرى نحن كيف تم ذلك ..
ولكنا نلحظ من أحوال الفطرة مصداق تلك الحقيقة .
هنا منافذ فى الفطرة تتلقى إيقاعات من الكون والحياة ، فتستيقظ من غفلتها ، إن كانت غافلة ! فتروح تتساءل : ما وراء ذلك ؟ ومن وراء ذلك ؟ .. فتهتدى إلى وجود اله ثم تتصوره على حقيقته ، فردا صمدا خالقا رازقا مدبرا مهيمنا .. فتعبده العبادة الحقة وتخلص له العبادة ، أو تضل فتتصوره على غير حقيقته ، وتشرك معه آلهة أخرى . ولكنها فى الحالين تعرف وجوده ، وتتوجه إليه بالعبادة على نحو  من الأنحاء .
هناك بادئ ذى بدء هذا الكون الهائل ، الذى يروع الحس بضخامته المعجزة .
وبغير الأدوات التى استحدثها الإنسان لتزيد بصره حدة ، وتجعله ينفذ فى آماد الكون المتطاولة التى لا تنفذ إليها النظرة بالعين المجردة ، كان الإنسان يحس  بضخامة الكون وسعته المعجزة ، من رؤية السماء التى لا يحيط بها بصره ، ورؤية الشمس والقمر ، ورؤية العدد الهائل من النجوم التى يعجز عن إحصائها .. وكان يروعه ذلك كله ويسترعى انتباهه فيظل يفكر فيه ، ويتساءل .. أو تتساءل فطرته ، من وراء ذلك ؟ وماذا وراء ذلك .. فيهتدى إلى الله الحق ن أو يضل فيتصور الشمس هى الله ، أو القمر


" [1] " انظر كتاب " واقعنا المعاصر " .
" [2] " الكتاب فى أصله الفرنسى يسمى " La Conquette du Monde Musulman " أى غزو العالم الإسلامى ، ولكن المعرب اختار له اسم " الغارة على العالم الإسلامى " .
" [3] " كانت تلك من هتافات الحركة الوطنية فى مصر !
" [4] " لا يمكن لمسلم ، فضلا عن مسلم مجاهد أن يقول عن عدو دينه إنه ولى أمره مهما تغلب الأخير عليه فى معركة السلاح وقهره . أما الزعيم السياسى فما أيسر عليه أن يقول ذلك !
" [5] " يقول القسيس المبشر " زويمر " الذى كان له نشاط تبشيرى ضخم فى العالم العربى فيما ينقل عنه كتاب " الغارة على العالم الإسلامى " فى خطاب للمبشرين : " إنكم أعددتم نشئا (فى بلاد المسلمين) لا يعرف الصلة بالله ، ولا يريد أن يعرفها ، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه فى المسيحية ، وبالتالى جاء النشء الإسلامى طبقا لما أراده الاستعمار المسيحى لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ، ولا يصرف همه إلا فى الشهوات ، فإذا تعلم فللشهوات ، وإذا جمع المال فللشهوات ، وإن تبوأ أسمى المراكز ففى سبيل الشهوات يجود بكل شئ " .
" [6] " هكذا تصف الدعاية المغرضة السلطان المسلم .
" [7] " وذلك هو سر كراهية اليهود له وتشنيعهم به ونشر الدعايات المغرضة ضده .
" [8] " كما تدل على ذلك مذكراته .
" [9] " راجع إن شئت مذكرات السلطان عبد الحميد .
" [10] " قامت الدولة واقعيا سنة 1947 ولكنها لم تعلن رسميا إلا عام 1948 بعد مسرحيات الحرب التى مثلتها الجيوش العربية حسب مخطط متفق عليه .
" [11] " يبالغ وليم كار فى نسبة كل أحداث العالم الكبرى إلى اليهود ، ولا نوافقه فى ذلك رغم إخلاصه فى كتابته .. راجع فصل ط دور اليهود فى إفساد أوروبا " .
" [12] " كلمة " الشرق الأوسط " ذاتها كلمة دخيلة من تخطيط الأعداء من أجل تسويغ إقامة الدولة اليهودية فى المنطقة . فإنها لو بقيت فى التسمية منطقة إسلامية أو حتى عربية فكيف تقوم فيها دولة لليهود ؟ أما حين تصبح منطقة جغرافية لا انتماء لها فكل شئ ممكن !
" [13] " رواه البخارى .
" [14] " فى مصر يدرس للتلاميذ الأقباط مبادئ دينهم على يد مدرسين مسيحيين ، وتوضع دروسهم فى الجدول الرسمى للدراسة وتعطى لهم الحرية الكاملة يقولون فى دروسهم كل ما يريدون بلا رقيب عليهم ..
" [15] " وفى مصر يفتح الأقباط بجانب الدروس الدينية الرسمية التى يتلقونها فى مدارس الدولة مدارس دينية خاصة تسمى " مدارس الأحد " لا تتعرض لها الدولة أى نوع من التعرض .
" [16] " وفى مصر يتلقى الأقباط المعونات من الدول المسيحية والهيئات والأفراد فلا تسألهم الدولة من أين يأخذون ولا قيم ينفقون .
" [17] " كان " ماجلان " الذى يطلق عليه لقب " الرحالة العظيم " ممن قاموا بغزوة صليبية على افلبين بعد إلحاح شديد على " البابا " أن يأذن له فى فتح تلك البلاد وضمها إلى المسيحية . وقد قتله الأهالى فى المعركة التى جرت على أثر تجرؤه على رفع الصليب عى أرض بلادهم الإسلامية فسموا " المتبربرين " .
" [18] " لا يتسع المجال هنا للتعليق على عنوان الكتاب الذى يقصد به أن الإسلام ليس شيئا ثابتا محدد المعالم ، وإنما هو شئ دائم التغير ! فالإسلام الأول شئ ، وإسلام القرون الوسطى (وهذا عنوان كتاب آخر لنفس المؤلف) شئ آخر ، والإسلام الحديث شئ ثالث ! وهذه القضية ذاتها من وسائل الحرب التى يستخدمها المستشرقون ضد الإسلام !
" [19] " يقصد بهم بصفة خاصة المسلمين المحافظين على إسلامهم .
" [20] " هذا اعتراف من المؤلف بأن الغربيين يسخرون من الأتراك بعد أن تغربوا وتركوا إسلامهم !
" [21] " لاحظ سخرية المؤلف بالأتراك ، مع أنه ينصح الغربيين بعدم السخرية بهم !
" [22] " يلتقى الصليبيون جميعا فى كراهيتهم لهذا " السلاح النفسى " وهو استعلاء المسلم بإيمانه . راجع قوله " جرونيبام " المشار إليها آنفا .
" [23] " وهذا اعتراف بأن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين تصل إلى حد " عدم اللياقة " أى سوء الأدب !
" [24] " يعود إلى سخريته على طريقته الخاصة فيقول إن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين ليس فيها أى تحامل ! يعنى أنهم يستحقون ذلك !
" [25] " أى شعوب ذليلة تابعة مقدر عليها الذل والتبعية لا فكاك لها منها !
" [26] " تعريب الدكتور نبيل صبحى باسم " الإسلام والغرب .. والمستقبل " ص 51 53 .
" [27] " ظهر فى بريطانيا فى أوائل الستينات كتاب بعنوان " معضلة الرجل الأبيض " The White Man's Dilemma شرح فيه مؤلفه موقف الرجل الأبيض من الرجل الملون ، وخلاصة فكرة الكتاب أن الرجل الأبيض يتصايح اليوم بضرورة تحديد نسل الرجل الملون ، ويحاول إقناع الرجل الملون بتحديد نسله بشتى الوسائل على أساس أن أقوات الأرض لا تكفى لمواجهة " الانفجار السكانى " فى المستقبل . ويناقش المؤلف هذا الزعم ، ويثبت أن موارد الأرض لم تستثمر كلها بعد ، فضلا عن أن موارد البحر تعتبر غير مستثمرة أصلا . وأن الأرض بيابسها ومياهها تحمل من الأقوات ما يكفى أضعاف أضعاف العدد الحالى من البشر . ولكن الحقيقة الكامنة وراء هذه الصيحة أن الرجل الأبيض يخشى على سيادته وسيطرته ورفاهيته الناعمة من يقظة الرجل الملون الذى سلب الرجل الأبيض خيراته عن طريق السيطرة والاستعمار . فإذا ظل نسل  الرجل الملون يتزايد بنسبته الحالية بينما نسل الرجل الأبيض يتناقص بسبب عمل المرأة وانشغالها بالمحافظة على رشاقتها وانشغالها بملذاتها عن الحمل والأمومة فسيستيقظ الرجل الملون إلى الحقيقة الواقعة ، وهى أن خيراته التى تشتد حاجته إليها بسبب تزايد أعداده مسلوبة بيد الرجل الأبيض . وعندئذ سيثور على الرجل الأبيض لاسترداد خيراته المسلوبة ، فيفقد الرجل الأبيض سلطانه ورفاهيته .. ومن أجل ذلك ينصحه بتحديد نسله ويخوفه بالجوع !!
" [28] " رواه مسلم .
" [29] " أى حديث مقطوع بصحته .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar