Rabu, 28 November 2012

ميزان التطور ولاثبات في أفكار الإسلاميين



ميزان التطور ولاثبات في أفكار الإسلاميين
د. أحمد عبد الرحمن
التطور .. التقدم .. التغيير .. شعار النخبة الثقافية .. بل دينها وديدنها ! , ومعه وفيه شعارات الحداثة والمعاصرة .. وضده كل قبيح منبوذ كريه : الثبات والإطلاق والخلود .. وإن شئت أن تسعد نفسًا , أو تطرب قلبًا , أو تستميل عقلاً فصف صاحبه بالتطور أو انـْعته بالتقدم , أما إن أردت أن تهين كاتبًا أو تنفر من مذهب فَاعْمد إلى الثبات فأَلْصِقْه به ! , ولقد بلغ الهوس بأحدهم حد القول إن الله هو التقدم ! وهكذا الشأن في الدول أيضًا فدول العالم تـُصنَّف على أساس التطور : أَرْفَعُهنَّ المتطورة   ووسطاهن التي تسير في طريق التطور وأحطـُّهن غير المتطورة .
وتأمل عنوانات المؤسسات وأسماء الأحزاب  والصحف تجدها تتبارى في التسمي بالمتطورة والتقدمية والحديثة والمعاصرة والجديدة .. وهذا كله تقليد بحت غير نقدي للتوجهات التطورية الأوربية .. وقد نشرت مئات الكتب وآلاف المقالات وانعقدت عشرات المؤتمرات للحديث عن التطور والحداثة والتجديد .. وانقسم العالم الإسلامي كله إلى أنصار للتطور وأنصار للإسلام الذي أَلْصقوا به وَصْمَةَ الجمود والتحجر لأنه يتبنى ثوابت مطلقة خالدة !
ولقد مددوا نطاق التطور لكي يشمل كل شيء من الحياة الحيوانية (كما هو أصل نظرية دارون) إلى الحياة الإنسانية , والمجتمع البشرى وتركيبه , والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والطبقات , والنظم السياسية والاقتصادية والتربوية , والمبادئ التشريعية والقيم الأخلاقية والأدوات والوسائل التقنية , والعلوم المادية والإنسانية .
وقد ظن الأستاذ فريد وجدي أن مذهب التطور الشامل هذا لا علاقة له بالدين وهذا خطأ ويكفى أن نذكر أن نظرية التطور تناقض ما جاء في الإسلام عن خلق الإنسان , والثقافة الإسلامية تُعتبر عندهم ثقافة منحطة على سلم التطور ! فإما التـطور وإما الفناء ولا خيار أمام المسلمين سوى هذا !
مقولة رددها تطوريون عديدون في الشرق والغرْب , من ذلك مثلاً قول هاملتون جيب المستشرق الإنجليزي الكبير "إن الإسلام ليس له أي مستقبل ؛ لأنه لم يظهر أية قدرة على التكيف مع الأفكار الجديدة" .
و"الأفكار الجديدة" هي الفلسفات الأوربية الحديثة , العلمانية , المادية , فإذا تكيف معها الإسلام كان على المسلمين أن يستبدلوا المرجعية العلمانية ـ وهى الخبرة البشرية ـ بالمرجعية الإسلامية وهى القرآن والسُّنة , وبهذا يُنبذ الإسلام شيئًا فشيئًا حتى يتم هجره , ثم فناؤه , ويصبح تاريخا أو تراثًا لا صلة له بالحياة .. فالإسلام ليس له مستقبل سواء تكيف مع الأفكار الجديدة أو لم يتكيف ! لكن "جيب" وأمثاله يُوحون للمسلمين بأن الإسلام يمكن أن يعيش إذا هو ساير الفكر الأوروبي !
ومن المؤسف أن أعدادًا من أبناء المسلمين صدقوا مقولة "جيب" وروَّجوا لها تحت اسم الحداثة والتطور والتغيير والتقدم والتحرر من التقاليد , غير أن مرور أكثر من نصف قرن على مزاعم الفناء لم تظهر فيه الأعراض الدالة على الفناء على الأمة المسلمة ؛ وإنما حدث العكس فنهضت الأمة المسلمة واستردت استقلالها , وشرعت تتقارب شعوبها  وتشكل المنظمات الإسلامية الوحدوية .. وازدهر التديُّن وأقبل المسلمون على دينهم إقبالاً عظيمًا , وفى الوقت نفسه ظهرت أمارات الضعف على "الأفكار الجديدة" أعنى الثقافة الغربية , باعتراف الأوروبيين أنفسهم ولم يعد "الغرب" مثالاً يحتذى .
لكن كتابًا عديدين عندنا لا يزالون يروجون لفكرة مسايرة الغرب ؛ ولا يزال الغرب أيضًا يروج للفكرة نفسها , فالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية يجب أن تساير النظم الغربية .. والمسلمون رجالاً ونساءً يجب أن يسايروا الغربيين في كل شيء ؛ بما في ذلك أنواع الطعام والشراب , ناهيك عن العادات والتقاليد والأزياء واللغة والتقويم والفنون والآداب .. وكل شيء .
و"التطور" هو أصلح لفظ نضع تحته مجموعة المشكلات التي تضم : التغير والثبات , والنسبية والإطلاق , والإبدال والإحلال , والجمود والمرونة , والصلاحية لكل زمان ومكان.. وكل القضايا التي من هذا القبيل .  
والثابت والمتغير في شريعة الإسلام لهما أصولهما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة : 3]  , وقوله تعالى {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (115)} [الأنعام] فالإسلام هو الدين التام الكامل الذي ارتضاه الله لعباده ؛ والتام الكامل لا يُغَـيَّر أو يُبـدَّل , لأن أي تغيير فيه انتقاص من كماله .. فهو ثابت خالد مطلق , وهذا ما سنراه بوضوح في هذا الفصل الذي يعرض نماذج لما قاله الإسلاميون في القديم والحديث عن الثابت والمتغير في شريعة الإسلام .
والسُّـنة النبوية ذكرت "العفو" أو "ما لا نص فيه" من الأفعال ؛ وهو مجال واسع للتغيير والتطوير والتحديث في العلوم المادية والتقنية والصناعية والإدارية .
وقد واجه علماء الإسلام الأوائل التحدي الفلسفي الذي تمثل في فكر السوفسطائية من اليونانيين القدماء ودحضوا آراءهم السلبية المنكِـرة  للوجود والمعرفة والثوابت , وتكررت المواجهة في العصور الحديثة خصوصًا بعد ذيوع الفلسفة التطورية عند "دارون" .. وهنا نعرض نماذج لآراء الإسلاميين القدامى والمحدثين الذين عارضوها .
الثابت والمتحول عند الإمام الشاطبي يرحمه الله :
يقول الإمام الشاطبي موضحًا الموقف الإسلامي "العوائد المستمرة ضربان : أحدهما ـ العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها, ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا , أو أذن فيها فعلاً وتركًا , والضرب الثاني هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.. فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية , كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات .. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة , فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها ؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا , ولا القبيح حسنًا , حتى يقال مثلاً : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ! أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه ! .. أو غير ذلك ؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نَسخا للأحكام المستقرة المستمرة , والنسخ بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) باطل"(1)
والشرائع والقيم الخلقية من قبيل الضرب الأول : فكل قيمة خلقية إسلامية قد أقرها دليل شرعي , ومن القيم الخلقية ما أمر به الشرع إيجابًا كبر الوالدين , والرحمة بالمرضى والضعاف , والصدق في الشهادة , والثبات يوم الزحف ,, ومنها ما أمر به الشرع ندبًا كالعفو , وبر الجار , والوفاء للصديق , وإصلاح ذات البين .
فكل القيم الخلقية داخلة تحت أحكام الشرع ومن ثم فهي ثابتة أبدًا ولا تبديل لها وإن اختلفت الأزمان والأماكن والآراء .. ودعاوى تطويرها     أو تبديلها أو هجرها كلها دعاوى باطلة .
ويحدد الشاطبي مجال التغيير والتبديل والتطوير في الضرب الثاني الذي يضم "العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي" .. مثال ذلك "كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع" (2) , فهو يقدح في عدالة الشاهد في بلد أو إقليم , ولا يقدح فيها في بلد أو إقليم آخر , وكذلك الحكم على بلوغ الصبيان , وما يترتب عليه من مسؤوليات ؛ "فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ , فإذا بلغ وقع عليه التكليف , فسقوط التكليف قبل البلوغ , ثم ثبوته بعده ليس اختلافًا في الخطاب , وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد" . (3)
هذه هي الصورة المشرقة , الموجزة , المحددة , الواضحة للموقف الإسلامي الصحيح من قضية النسبية الأخلاقية والتشريعية .. ولكن أقلامًا عديدة تنكبت الطريق إليها وحاولت عبثًا إعادة اختراع البارود كما يقال , وكانت النتيجة المحتومة: السطحية والهلامية والضياع والتشتت للكاتب والقارئ على السواء .
واستغلت العلمانية الفرصة وراحت تصخب على الحقيقة في محاولات لا تنقطع لطمسها , ولتصوير الإسلام على أنه كتلة من الصلصال يمكن تشكيلها حسب الهوى والغرض .
ابن القيم والمصالح المرسلة ..
ويكشف ابن القيم عن دور المصالح المرسلة كمصدر للتشريع من شأنه أن يبقى مظلة الشريعة شاملة سابغة لا يخرج عن حكمها شيء , بعكس أنصار النسبية و التطور الذين سوغت لهم أوهامهم إمكان اطراحها استنادًا إلى المصالح المرسلة .
وابن القيم يرفض هذا الموقف كما يرفض موقف أولئك الذين جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد .. وإليك هذا النص الفريد من "إعلام الموقعين" يقول "هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة , فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرّءوا أهل الفجور على الفساد , وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد , وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يُعرف بها المحق من المبطل , وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق , ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع .. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها , فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلاّ بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم , فتولد من تقصير أولئك (العلماء) في الشريعة , وإحداث هؤلاء (الولاة) ما أحدثوه من أوضاع سياسية شر طويل وفساد عريض , وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله .. وكلا الطائفتين (من العلماء والولاة) أتيت من قِـبل تقصيرها في معرفة ما بَعَـثَ الله به رسوله ؛ فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض" . (4)
فطائفة من علماء الدين لم تعرف كيف تستفيد من المصالح المرسلة , ووقفت عند النصوص ولم تجتهد لتمديد مظلة الشريعة على كل جديد من شئون الحياة في المجالات التي لا نص فيها , والمجالات التي تحكمها نصوص ظنية الدلالة .
وطائفة أخرى من الولاة ـ يشبهون دعاة التطور اليوم ـ أخذت بالمصالح المرسلة وتمادت في ذلك حتى خرجت على النصوص , أو انتهكت النصوص استنادًا إلى المصالح المرسلة !
لكن الموقف الإسلامي الشرعى الصحيح يعتبر المصالح المرسلة في التقنين والتنظيم فقط حيث لا نص , أو حيث يوجد نص ظني الدلالة أي يحتمل التفسير على أكثر من نحو ؛ وعلى شرط تجنب مخالفة النصوص الدينية ومقاصد الشرع , والهدف من وراء ذلك إحكام الصبغة الشرعية الإسلامية على حياة الجماعة المسلمة , بما يحقق لها مصالحها في الدنيا والآخرة , ويحفظ عليها شخصيتها الإسلامية المتميزة .. وهذا هو ما اتفق عليه فقهاء المسلمين .
يقول المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة "يتفق جمهور الفقهاء على أن المصلحة معتبرة في الفقه الإسلامي , وأن كل مصلحة يجب الأخذ بها ما دامت ليست شهوة ولا هوى , ولا معارضة فيها للنصوص تكون مناهضة لمقاصد الشارع" . (5)
والإمام مالك رحمه الله ـ وهو الذي حمل لواء الأخذ بالمصالح ـ اشترط لصحتها "الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائمًا بذاته وبين مقاصد الشارع فلا تُـنافى أصلاً من أصوله , ولا تُعارض دليلاً من أدلته القطعية" . (6)
وحجة الشافعية والحنفية في رفض الأخذ بالمصالح استندت إلى "أن الأخذ بها ـ من غير اعتماد على نص ـ قد يؤدى إلى الانطلاق من أحكام الشريعة , وإيقاع الظلم بالناس باسم المصلحة , كما فعل بعض الحكام الظالمين" (7) , وكما فعلت الإجراءات الاشتراكية والشيوعية الحديثة حين صادرت الأموال والممتلكات .. إلخ , وهذا هو ما يريد دعاة التطور المطلق إحداثه اليوم؛ فأنصار التطور المطلق يتكلمون عن المصلحة ويعيدون القول دون أي تحرز ديني , أو تدقيق علمي , وهدفهم الأول والأخير هو الانفلات من أحكام الشريعة , والانتهاء إلى القضاء على خلودها , وإدخال النسبية عليها , وإقرار مبدأ التطور المطلق الشامل "السائب" تقليدًا للمدنية الأوربية الحديثة ؛ وتطبيقًا لنظرية "مسايرة" الغرب !
وأعود مرة أخرى فأذكر القارئ بأن القيم الخلقية مثل سائر القواعد الشرعية كلها مستندة إلى نصوص من القرآن والسُّـنة فهي من المنصوص عَـليْه شرعًا , ولا يجوز مطلقًا أن تُلغى أو تُـبدل أو تُـهجر أو تُـطور بناءً على مصلحة مرسلة ؛ لأن هذا كله خروج على النصوص القطعية .
وكذلك الإيثار وإخلاص النية لله تعالى وغيرهما من المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية كلها مستندة إلى نصوص القرآن والسُّـنة ولا مجال فيها لتحكيم المصالح المرسلة .
الإسلاميون الـمعاصرون :
وقد تصدى الفكر الإسلامي المعاصر لدعاوى التطور في مجال القيم الخلقية , والمبادئ التشريعية , كما تصدى للدارونية الشرقية التي اُتخـذت سندًا لهدم الدين من أساسه الاعتقادى ذاته .
وكانت العناية بمناقشة "دارون" في مجال علم الحياة (البيولوجيا) هي التي استحوذت على كتابات "جمال الدين الأفغاني" , والشيخ "محمد رضا آل" العلامة وغيرهما .
أما التطور في مجال التشريع والقيم الخلقية والمبادئ التشريعية فلم ينل إلاّ القليل من اهتمام الباحثين , فجاءت آراؤهم على شكل تعميمات أو نظريات , ولم تتطرق بحوثهم إلى الجزئيات ؛ وكذلك يُلاحظ أن الكتاب الإسلاميين المعاصرين لم يفيدوا كما ينبغي من علم أصول الفقه , وهو الذي تناول هذه القضية بمنهج صارم دقيق , وعرض موقف الإسلام منها بأسلوب منطقي رصين .. ومن هنا وجدنا كثيرًا من الكتابات الحديثة والمعاصرة قاصرًا عن أن يُقَارَن بما في تراثنا الأصولي الشامخ , وقد كان عليها أن تستوعبه , ثم تحاول أن تضيف إليه .
إن الكتابات الإسلامية المعاصرة التي عَرَضَت لقضية تطور الشرائع والقيم الخلقية لم تتناولها إلاّ عرضًا : فصل هنا , وفصل هناك , أو فقرة هنا, وفقرة هناك , دون تكرس أو تفصيل , على الرغم من أن إسقاط هذه الدعوى الخطرة يعني إسقاط كل المذاهب المناهضة للإسلام .
الشيخ محمد عبده :
ونبدأ عرض موقف الفكر الإسلامي المعاصر بآراء الشيخ  محمد عبده وتلميذه رشيد رضا , عليهما رحمة الله .
ونلحظ بادئ ذي بدء أن الشيخ  محمد عبده كان يرى أن إصلاح أحوال الأمة "يتم إذا سلك قادتها سبيل التربية والتثقيف , لا سبيل تقليد الغرب من غير فهم ولا إدراك عميق , أو التمسك بظواهر المدنية المادية مع الغفلة عن صميم المدنية الروحية" . (8)
فهو يدرك فساد الاتجاه الأعمى إلى تقليد الغرب .
بل إنه يبدو متشددًا في موقفه من تقليد المدنية الغربية حين نراه لا يجيز لبس البرنيطة إلاّ على شروط فيقول في فتواه ردًا على استفسار من أهالي "الترنسفال" : أما لبس البرنيطة .. إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره , فلا يُعد مكفرًا , وإذا كان اللبس لحاجة من حجب الشمس , أو دفع مضرة , أو دفع مكروه , أو تيسير مصلحة , لم يكره كذلك".(9)
فهو يقف في مجابهة التطور بالمعنى العلماني الحديث ـ أي تقليد المدنية الغربية ـ وذلك لإدراكه بأن الزي سمة من السمات الثقافية , يجب الحفاظ عليها , وإن كانت من الأمور "الخارجية".
لقد دعا الشيخ محمد عبده إلى :
ـ "تحرير الفكر من قيد التقليد" .
ـ "وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف" .
ـ "والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى" .
ـ "واعتباره من ضمن موازين العقل البشرى التي وضعها الله لتردَّ من شططه , وتقلل من خلطه وخبطه ,, لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني .. وإنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم باعثًا على البحث في أسرار الكون , داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة ..". (10)
ومن الواضح أن هذا الذي دعا إليه "الشيخ" لا سند فيه لأنصار التطور ؛ بل فيه السند لتوكيد ثوابت الإسلام , في ينابيعه الأولى : أي الكتاب والسُّـنة ؛ وواضح من كلامه أن اليد العليا للكتاب والسُّـنة عند ظهور خلاف بينهما وبين الخبرة البشرية , سواء كانت معقولات أو علومًا بشرية .. وهو يرى تحرير الإسلام والفكر الإسلامي من آراء القدماء , وتحريره من التقيد بالاجتهادات الموروثة والتقليدية .
وإذا كان تلاميذه من أنصار نظرية التطور قد خالفوا مبادئه , فذلك شأنهم , وهو ليس مسئولاً عن أخطائهم .. لقد أرادوا الاستتار وراء اسمه ؛ وعلينا أن نزيح ذلك الستار جانبًا , ونبرِّئ الشيخ من ذنوب التطوريين الذين راحوا يتمسحون في عباءته ! (11)
وأما احترامه للنصوص الدينية , وتوكيده ضرورة الوقوف عند حدودها وعدم الخروج عليها لأى سبب كان , فأمر واضح أشد الوضوح : "فأمر الله في كتابه , وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها صلى الله عليه وسلم بالعمل , هما الأصل الذي لا يُرد .. وما لا يوجد فيه نص عنهما يَنظر فيه أولوا الأمر , إذا كان من المصالح". (12)
ومعنى كلامه أن السُّـنة الصحيحة لا تنسخ بإجماع , ولا مصلحة مرسلة , لأننا نعلم جميعًا أن فتح هذا الباب الخطير لابد أن ينتهي إلى تقويض التشريع والأخلاق جميعًا .
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى نبذ التقليد , فإنه لم يقصد بذلك الخروج على شرع الله باسم التطور أو التقدم أو المصلحة , أو غير ذلك من دعاوى الحريات العقلية أو العلمية .
لقد أطلق الإسلام العقل من قيوده "وخلصه من كل تقليد كان استعبده , ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته , مع الخضوع مع ذلك لله وحده , والوقوف عند شريعته , ولا حد للعمل (العقلي) في منطقة حدودها (أي داخل إطار الشريعة) , ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها" . (13)
فليعمل العقل , وليفكر الإنسان , ولينظر الناظرون , ولكن ضمن حدود الشريعة , وتحت بنودها .
وإذا توهم الواهمون أن الامتثال لأوامر الله يضيّع مصلحة أو يسبب ضررًا فإن ذلك لا يجيز لأحد ردّها "لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لهــا بدون بحث ولا مناقشة" . (14)
ورفض محمد عبده نسخ السُّـنة بالقياس "فعلينا أن لا نحفل بكل ما قيل (عن إمكان نسخ السُّـنة بالقياس في رأى بعض الشافعية) , وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شيء , ثم بسـنّة رسوله التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون" . (15)
وكذلك رفض "التأويل السقيم والتحريف البعيد" كوسيلة ملتوية للخروج على النصوص من أجل إقرار مذاهب باطلة أو تشريعات وقيم خاطئة "كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلاً والقرآن العزيز فرعًا يُحمل عليها ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد" . (16)
فالتأويل عنده يجب أن لا يراعي "إلاّ الدليل القطعي , أو الأحاديث الصحيحة , لا الظنون الشخصية والميول الحزبية" . (17)
وبعد أن أنشأت الحكومة المصرية ما يسمى بصندوق توفير البريد , ووجدت أن الأهالي يتأثمون من أرباحه باعتبارها فوائد ربوية , سألت محمد عبده "هل توجد طريقة شرعية لجعل هذا الربح حلالاً حتى لا يتأثم الفقراء من المسلمين من الانتفاع به؟" فأجابها مشافهة "بإمكان ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق" . (18)
وهذا هو الموقف الإسلامي الصحيح .
وأما مسألة تعدد الزوجات فقد أفتى فيها بما يلي :
"نعم .. ليس من العدل أن يُمنع رجل لم تأت منه زوجته بأولاد أن يتزوج أخرى ليأتي منها بذرية , فإن الغرض من الزواج التناسل .. فإذا كانت الزوجة عاقرًا فليس من الحق أن يُمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى ـ وقال ـ وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلاّ لضرورة تثبت لدى القاضي , و لا مانع من ذلك في الدين أَلْـبتة , وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط" . (19)
ونحن قد نختلف معه في هذا الحجر , ولكننا لا نستطيع أن نتهمه بالدعوة إلى تحكيم المصالح المرسلة في النصوص , كما يريد العلمانيون ؛ فالنصوص يجب أن تعتبر وتحترم "مهما بدت مضرة في ظاهر الأمر , لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة" كما ورد في النص السابق إيراده قبل قليل .
هذا هو موقف محمد عبده على الحقيقة , وكما جاء في أعماله .. أما الصورة التي يرسمها له العلمانيون ففيها تحريف كثير .
فقد أرادوا هم أن يحرِّموا تعدد الزوجات , ليطوروا المجتمع كما يزعمون , وأرادوا أن يدعموا موقفهم بتزوير موقف محمد عبده وإظهاره على نحو يوافق أهواءهم .
إنك إذا قرأت ما كتبوه عن تعدد الزوجات تحس بأن محمد عبده قد دعا إلى تحريمه , أو أنه كان ينادى "بالخروج على جوهر الشريعة" , وأنه تبنى الفكرة القائلة بأننا يجب أن "نتناول تطبيق الشريعة الإسلامية ببعض التعديل الذي يلائم روح العصر" . (20)
فالرجل الذي لم يُجـزْ لِـبْس "البرنيطة" إلاّ على مضض , ينسبون إليه إطلاقَ القولِ جزافًا بتعديل الشريعة لتلائم روح العصر .. أي المدنية الغربية , وهذا التعديل معناه الخروج على النصوص , أو التعسف السقيم في تأويلها , ولا شيء غير ذلك .
ويزعم العلمانيون أن محمد عبده هو الأب الروحي لعدد من زعماء العلمانية (21) , والحق أنه لم يكن كذلك ؛ وإنما تتلمذ عليه رشيد رضا , ومصطفى صادق الرافعي , ومن بعدهم خلق كثير التزموا كتاب الله وسنَّـة رسوله , ولم ينبهروا ببهارج المدنية الغربية فيقبلوا مبدأ التطوير "السائب" سعيًا إلى مسايرتها ؛ وأما المدرسة العلمانية أو التيار العلماني فمصدره دوائر أخرى.. وحتى لو رأوا فيه الأب الروحي لهم , فالذنب ذنبهم .. ولقد وجدوا في ابن القيم , والإمام مالك , والطوفى الحنبلي ؛ بل وعمر بن الخطاب أشياء تأولوها لصالح ضلالاتهم !
ولقد كان للمستعمرين , والحكام المستغربين , دور كبير في تغذية التيار العلماني, ودعم فكرة التطور "السائب" فأرسلوا البعثات إلى أوربا ثم مكّـنوا لمن عاد منها , وأخذوا يذيعون أسماءهم في الآفاق , ويسبغون عليهم الألقاب , حتى نسيَّ الناس محمد عبده , ورشيد رضا , وراحوا يفيضون في الكتابة والحديث عن رواد العلمانية .
لقد تخلى العلمانيون عن الموضوعية فيما كتبوا عن محمد عبده ومدرسته , وعلى هذا فقدت كتاباتهم كل قيمة علمية ؛ وقراءة كتاباتهم في مثل هذه المسائل مضيعة للوقت ؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يركن إليها .. ومن العجب أنهم تركوا مؤلفات محمد عبده جانبًا , وراحوا ينقلون دون تحفظ ما كتبه عنه المؤلفون الأجانب .. لقد أعجبتهم تفسيرات الأجانب لفكر الشيخ محمد عبده , لأنها تفسيرات علمانية .. والعلمانيون العرب والشرقيون بعامة يغلب عليهم الحماس لا منطق العقل وموضوعيته .. ومؤلفات محمد عبده لا تريحهم ؛ لأنها واضحة في خطها الشرعي الملتزم .. فليذهب محمد عبده ومؤلفاته إلى قبر النسيان , ومرحبًا بمحمد عبده كما يصوره المؤلفون الأوربيون !
الـشيخ محمد رشيد رضا يرحمه الله..
لا يقل رشيد رضا عن محمد عبده احترامًا لنصوص الشريعة , إن لم يَـفـُقـْهُ في ذلك .. والتطور الذي أجازه  رشيد رضا هو التطور الذي لا يعارض نصوص الشريعة أو روحها ومقاصدها.
يقول عن نفسه ورسالته "وصاحب المنبر قد وقف نفسه على الرد على جميع الملاحدة والبهائية والقاديانية والقبوريين وسائر مبتدعة عصرنا , وهو لم يدّع مذهبًا له يدعو إليه ولم يخالف إجماع الأمة" . (22)
ويقول عن المصالح المرسلة وحدودها :
"وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في المصالح العامة , سياسية وحربية ومالية , مما لا نص فيه في كتاب الله تعالى" .. وبيّن في تفسيره لآية الشورى "حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة , لأنها مصلحة تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة , ولو قيدت بنظام لَجعِلَ تعبديًا" . (23)
وهو في موضوع المصالح على مذهب الإمام مالك رحمه الله (24) , وكلنا يعلم شدة تمسك المالكية بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة .
لكن محمودًا الشرقاوى ـ وهو من أنصار التطور ـ يصور رشيد رضا في صورة أخرى مغايرة ويقتبس من كتاباته ما يؤيد مذهبهم , لكنه ـ للأسف ـ لم يحدد موضع الاقتباس لكي نراجع النصوص . (25)
وهذا مسلك عجيب حقًا , فالأصول المتعارف عليها تقتضي تحديد مواضع الاقتباس , وبخاصة حين يكون الرأي ـ موضع النظر ـ له خطورته , وله مخالفوه أيضًا .
ويذكر د. الأعظمى أن رشيد رضا "قسم الأحاديث النبوية قسمين : المتواتر وغير المتواتر , وكان رشيد رضا يرى أن ما نقل إلينا بالتواتر ـ كعدد ركعات الصلاة , والصوم وما شاكل ذلك ـ فهذا يجب قبوله , ويسميه الدين العام ؛ وأما ما نقل إلينا بغير هذه الصفة فهو دين خاص لسنا ملزمين بالأخذ به" , وهو يرجح أن الصحابة "لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًا دائمًا كالقرآن" . (26)
ثم نقل الأعظمي عن مصطفى السباعي أنه ـ أي رشيد رضا ـ رجع فيما يبدو عن موقفه هذا في آخر عمره . (27)
وحقيقة ما قاله رشيد رضا هو حسب لفظه ذاته "وأقول .. معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها , ولذلك لم يكن الصحابة رضى الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له , إلاّ قليلاً من بيان السنة , كصحيفة على كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام , كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة .. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه , حتى الموطأ , وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة .. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منهما أن يأخذه عنه , ولكن لا يجعل ذلك تشريعًا عامًا ؛ وأما ذوق العارفين فلا يدخل شيء منه في الدين , ولا يعد حجة شرعية بالإجماع , إلاّ ما كان من استفتاء القلب في الشبهات , والاحتياط في تعارض البينات" . (28)
وقال أيضًا "إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعًا عامًا إلزاميا , بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم , وإلى اجتهاد أولى الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية , ومأخذه آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219] , ووجهه : أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال , وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه , وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر .. ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يلزم الأمة هذا , بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما , على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح في تحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما , وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي (صلى الله عليه وسلم) يعاقب من شربها" . (29)
سيد قطب وفكرة النسبية :
رفض الأستاذ سيد قطب الفلسفة النسبية التي يستند إليها التطور المطلق , وقبل مذهبًا مؤداه أن هناك محورًا ثابتًا وحوله متغيرات .

يقول الأستاذ إن "سمة الحركة داخل إطار ثابت وحوله متغيرات هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله ـ فيما يبدو لنا ـ لا في التصور الإسلامي وحده" . (30)
فالتغيرات داخل إطار ثابت نظام كوني شامل وليس نظامًا قاصرًا على ناحية دون أخرى , فالمجموعة الشمسية الضخمة , والذرة , وكل شيء آخر في الوجود "فيه متغيرات حول محور ثابت" .
وفيما يتعلق بالقيم الخلقية يؤكد الأستاذ قطب أن فيها ما يتغير , وفيها ما هو ثابت .. أي هي خاضعة للسنة الكونية الشاملة , سنة الحركة حول محور ثابت" . (31) ولم يَـخـضْ في التفاصيل , ولم يعالج أمثلة محددة .
وأهمية وجود محور ثابت للقيم الخلقية تتمثل في ضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية , فلا تمضى شاردة على غير هدى , كما حدث في أوربا المعاصرة التي تفلتت من عروة العقيدة , فانتهت إلى تلك النهاية البائسة . (32)
وأما التطور المطلق الشامل لكل الأوضاع والقيم , وللأصول التي تستند إليها القيم ذاتها , ففكرة تناقض الأصل الواضح في بناء الكون , وفى بناء الفطرة ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه" . (33)
وأما التطور في مجالات العلوم غير الدينية فالإسلام لا يضع عليها قيدًا "إن هذا الدين لا يدخل نفسه أبدًا في الشئون العلمية البحتة ولا العلوم التطبيقية المحضة , باعتبارها من أمور الدنيا , [أنتم أعلم بشئون دنياكم] .. وعندئذ يُخرج الإسلام نفسه نهائيًا من الميدان الذي حشرت الكنيسة نفسها فيه في القرون الوسطى , فحرقت العلماء وسجنتهم لأنهم يتحدثون في العلم وهى تحشر نفسها فيه" . (34)
ويفسر الأستاذ سيد قطب تبنى بعض النظم الاستبدادية لدعوى التطور المطلق فيقول إن التطور المطلق "هو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله .. وهو أولاً وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده الدولة بالأفراد , بحيث لا يكون هناك مبدأ ثابت ولا قيمة ثابتة يلوذ بها الأفراد في مواجهة الدولة .. وفى نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد , تطلق الدولة شهوات الأفراد من كل قيد" . (35)
والأستاذ سيد قطب يرد على الماركسية بالذات لأنها تمثل أقصى تطرف فلسفي معاصر في الموقف من تطور القيم الخلقية .. لقد جعلت الماركسية من القيم الخلقية مسألة مائعة , متبدلة , متغيرة , متطورة , مع تطور وسائل الإنتاج !   
وهذا ما يرفضه سيد قطب مؤكدًا أن القيم ثابتة "في كل المجتمعات .. سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة , وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة" (36) .. فالقيم في الشريعة الإسلامية تمثل المحور الثابت الدائم الذي لا يتغير ولا يتطور بحال .
ولقد أشرنا من قبل إلى أن الموقف الإسلامي يتيح مجالاً واسعا للتطور , بحيث لا يصبح هناك أدنى خطر للتحجر كما ظن بعضهم . (37)
وفى هذا يقول الأستاذ قطب "ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي ـ خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت ـ فخطر التجمد لا يَرِد على مثل هذا التصور ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره" . (38)
فكرة التطور عند محمد قطب ..
ويتخذ الأستاذ محمد قطب الموقف نفسه , وينكر على الماركسيين مزاعمهم القائلة بأن الأخلاق مجرد انعكاسات للحالة الاقتصادية , ويؤكد أن للأخلاق "مقياسًا ثابتًا .. وأن هناك أصلاً ثابتًا للأخلاق "وأن على الإنسانية أن تصل إليه من كل طريق يضمن الوصول" . (39)
ويرى الأستاذ محمد قطب أن أحْوال التطور في العالم المعاصر "ليست كلها نموًا سويًا ولا "تطورًا" كما يقول التطوريون , إنما هي مفتعلة افتعالاً حسب مخططات شريرة وُضِعت لإفساد البشرية ودُسَّـت فيها كثير من المفاسد , وقيل للناس إنها "تطور حتمي" وأن عليهم أن يأخذوها بلا معارضة ولا جدال , وهددوا إن هم وقفوا في سبيلها بأن عجلة التطور ستسحقهم" .
وهو يحدد موقف المسلم من هذا العالم "التطوري" فيقول "إن عليه أن يُفَرِّق بين المتطور أو المتغير بطريقة سوية , وبين المتغير بطريقة مفتعلة , أو بأسباب جاهلية لا علاقة لها بالإسلام ومرجعه في ذلك هو الكتاب والسُّنة" . (40)
فالدعوة إلى التطور "السائب" المطلق مرفوضة .,. والدعوة إلى الثبات الشامل مرفوضة أيضًا . وهذا يذكرنا بما سبق أن اقتبسناه من أقوال ابن القيم من أن الإحجام عن الاستفادة من السياسة الشرعية أو المصالح المرسلة فيما لا نص فيه تقصير مضر , كما أن إعمال المصالح فيما فيه نص خطأ .
فحيث النصوص المحكمة لا تطور .. وحيث لا نص فثمة فرصة للجديد المستحدث (مع تفصيل وتكميل يعرفه الأصوليون) .
وهكذا نتبين بجلاء أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يقبل مطلقًا فكرة التطور المطلق الذي لا يعرف للنصوص الدينية حرمة , كما أنه أنكر الثبات المطلق الذي يأبى أن يتحرك في النطاق المشروع للحركة ويركن إلى الجمود والتحجر .
هذا هو الموقف الذي ارتضاه الفكر الإسلامي الذي يمثله الأصوليون الكبار مع بعض الفوارق اليسيرة بطبيعة الحال (وقد أشرنا إلى بعض هذه الفوارق في صدر هذا البحث) .. فلا مجال بعد هذا للزعم بأننا معرضون لخطر الجمود .
ولا مجال بعد هذا للتميع , والتمسح في "سعة قيمنا المورثة" (41) , بقصد الإيحاء بمشروعية التطور , دون تحديد دقيق لمجال هذا التطور .
إن الإسلام يقر نوعًا من التطور , ويحدد مجاله , ويمنعه من تجاوز هذه الحدود .. وعلينا أن ندرك هذا جيدًا , وأن نعرف هذه الحدود بوضوح .. وإذا نحن تأملنا آراء الإسلاميين المعاصرين وجدناها تقرر مبادئ عامة , ولا تخوض في التفاصيل .. أعنى أنها لم تتساءل عن ظواهر التغير التي يتذرع بها التطوريون , مثل تغير الفتوى مثلاً , أو تغير آراء كبار الفقهاء , كما حدث للشافعي , أو ظواهر إرجاء قطع يد السارق في الغزو , أو تغير ظروف المجتمعات بما يبطل الحاجة إلى الضيافة التي أَوْجبَتْها السُّنة , أو أَمْر عثمان رضى الله عنه بالتقاط الإبل الضَّالًّة في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نَهَى عن ذلك , هذا فضلاً عن التغيرات الهائلة في النظم الإدارية والحربية وأثر ذلك في شرائع القتال وأخلاقياته .
هذا هو طابع المعالجات الحديثة لقضية التطور في مؤلفات الإسلاميين المعاصرين الذين درسناهم .. أما العلماء من السلف الصالح فقد عالجوا الفروع وبعض التفاصيل والجزئيات في مؤلفاتهم الموسوعية , لكنهم لم يجمعوا ظواهر التغيير أو التباين أو التطور لتشكيل مذهب في الثابت والمتغير , لأن القضية لم تطرح عليهم بوصفها التحدي الفكري الذي يبتغى هدم أصول الإسلام وفروعه كما حدث عند طرح نظرية دارون في العالم الإسلامي المعاصر . (42)


الهوامش :
(1)   الموافقات جـ 2 صـ 283 , 284 .
(2)   نفسه صـ 284 .
(3)   نفسه صـ 286 .
(4)   إعلام الموقعين جـ 4 صـ 372 , 373 .
(5)   أبو زهرة  "أصول الفقه" صـ 283 .
(6)   نفسه صـ 279 .
(7)   نفسه صـ 283 .
(8)   رشيد رضا "تاريخ الأستاذ الإمام" جـ 1 صـ 137 .
(9)   الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ 3 صـ 115 .
(10)                        مذكرات الإمام محمد عبده , تقديم طاهر الطناحى , نشر دار الهلال , بدون تاريخ صـ 18 .
(11)                        انظر ما يقوله "جيب" عن انتشار المفهوم التطوري لسير التاريخ بين تلاميذه "دعوى تجديد الإسلام" صـ143 .
(12)                        الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ5 صـ238 , 239.
(13)                        نفسه جـ 5 صـ 444 .
(14)                        نفسه جـ2  صـ 107 .
(15)                        نفسه جـ 4 صـ 403 .
(16)                        نفسه جـ 5 صـ 224 .
(17)                        د. عثمان أمين "رائد الفكر" صـ 175 .
(18)                        الأعمال الكاملة جـ 1 صـ 679 .
(19)                        نفسه جـ 2 صـ 95 .
(20)                        د. عثمان أمين, المرجع السابق صـ 40 , 233 : 239 .
(21)                        نفسه , المقدمة صـ 11 .
(22)                        رشيد رضا "الوحي المحمدي" المكتب الإسلامي طـ 8 صـ 254 , 255 .
(23)                        الوحي المحمدي" صـ 272 , 273 .
(24)                        نفسه صـ 278 .
(25)                        هذا ما فعله محمود الشرقاوي ,كتابه السابق صـ227.
(26)                        د. الأعظمي صـ 27 "نقلاً عن مجلة المنار , المجلد العاشر , صـ 511" .
(27)                        د. الأعظمى صـ 27 "نقلاً عن "السنة ومكانتها" للسباعي صـ 42 .
(28)                        تفسير المنار جـ 1 صـ 138 .
(29)                        نفسه صـ 118 .
(30)                        "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" صـ 121 .
(31)                        نفسه صـ 120 , 142 : 143 .
(32)                        نفسه صـ 128 .
(33)                        نفسه صـ 131 .
(34)                        سيد قطب "الإسلام والرأسمالية" دار الشروق طـ 10 صـ 81 .
(35)                        نفسه صـ 140 .
(36)                        "معالم في الطريق" دار الشروق (لم يسجل مكان النشر ولا تاريخه) صـ 111 .
(37)                        د. زكى نجيب محمود "ثقافتنا في مواجهة العصر" صـ 57 .
(38)                        "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" صـ146 ,147
(39)                        محمد قطب "الإنسان بين المادية والإسلام" الحلبي بمصر طـ 4 سنة 1965 صـ 78.
(40)                        نفسه صـ 79 .
(41)                        د. زكى نجيب محمود , السابق صـ 57 .
(42)                        محمد قطب "دراسات قرآنية" صـ 505 , 506 .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar