Rabu, 28 November 2012

MazahibFikriyah



  ...
ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية علي الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال ( وهي  نشر الفساد في صفوف الأمميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلي سـب أموالهم ، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير ) فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق [1]
m    m    m

ونعود الآن إلي تبين الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يرسمه الإسلام
يقدر الإسلام العقل باعتباره من أكبر النعم التي أنعم بها الله علي الإنسان : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
ولكنه لا يبالغ في تقدير قيمة العقل كما كانت تفعل العقلانية الإغريقية ومن ورثها من بعد ، بحيث يجعله هو المحكم في كل شئ ، وهو المرجع الأخير لكل شئ !
فهناك أمور لا يستطيع العقل من ذات نفسه أن يصل إليها لأنها ليست في محيط تجربته ، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة وهي أدوات الحس أن تصل إليها لأنها خارجة عن نطاق المحسوس .. وأن كان في إمكان العقل أن  " يعقلها " حين تبين له؛ فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي ، ويكون دور العقل فيها أن يعقلها لا بطريق التجربة المباشرة ولا بطريق الحس ، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر ، وهومدعو كما أسلفنا إلي القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها .. وهي مؤدية إلي الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل علي الطريق .
وهنا نقطة مهمة في الموضوع
فالعقل المجرد عن الهوي ، المتمحص لتمحيص الحائق ، المنزه عن كل شابئه تشوب التفكير أو تشوب الحكم وهم توهمته الفلسفة الإغريقية كما توهمته من بعدها كل عقلانية بالغت في تقدير دور العقل وتقدير قدراته والواقع البشري الطويل يشهد بأحد أمرين أو بهما معا في الحقيقة : أما أن هذا العقل في صورته المجردة تلك لم يوجد قط في واقع الأمر ، وإما أن البشرية لا تحكم عقلها في حميع أحوالها ، وكلا الأمرين صحيح ! فلا هذا العقل المطلق موجود عند أحد من البشر العاديين ولا الفلاسفة ولا المفكرين ، ولا البشرية تخضع لنداء العقل (_ علي فرض صحته) وتصيخ إليه ! إلا من رحم ربك !
والدليل العقلي علي الأمر الأول ، أنه لا يكاد ينطبق عقلان من عقول البشرية في تاريخها الطويل كله علي تصور واحد بجميع تفصيلاته ، ولو كانت العقول حتي عقول الفلاسفة والمفكرين بالصورة الوهمية التي تصورها العقلانية لتلاقت وتطابقت لأن الحق لا يتعدد
والدليل الثاني العقلي كذلك علي الأمر الثاني هو هذا الجنوح الدائم والتخبط الذي يمارسه البشرية وتلك الحروب المجنونة وذلك الاتباع الجنوني للهوي والشهوات ولو كانت البشرية تصيخ لنداء العقل في جميع أحوال ما جنحت ولا تخبطت ولا أصابها الجنون !
أنما الحق الذي تشير الدلائل كلها إليه أن العقل في خارج ميدانية الأصيل أداة طيعة لمن يسيطر عليه ! فإذا سيطرت عليه الروح المهتدية استقام منطقة واستقام تفكيره ن وأصبح خادما أمينا للهدي يسخر طاقاته كلها في خدمته ، وإذا سيطرت عليه الروح الضالة ، أي سيطر عليه الهوي والشهوات ، فهو خادم للضلال يسخر طاقته كلها في خدمته ، ويجادل أشد الجدل لتبرير موقفه .
{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)} [سورة الكهف 18/54]
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر 40/5]
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 7/179]
ومعرفة هذه الحقيقة عن العقل لا تنقص من قدرة كأداة للتفكير ، بل أن هناك ميادين من الفكر هي خالصة للعقل لا يشاركه فيها غيره من أدوات التلقي وأدوات تحصيل المعرفة ، كما سيجئ بيانه . وإنما معرفة هذه الحقيقة تجعلنا نحتفظ فقط في تقديرنا للقيمة النهائية للعقل ، بحيث لا نجعله هو المحكم في كل شئ ، ولا المرجع الأخير لكل شئ ! إنما ننزله منزلة الحق ، فما كان فيه هو المرجع الوحيد أو المرجع النهائي وكلناه إليه كله ، وما كان فيه قمينا أن يضل إذا ترك وحده جعلنا له الصحبة التي تمنع ضلالة وما كان عاجزا عن الوصول فيه إلي شئ لم نفحمه فيه ,.. وهذا هو منهج الإسلام
يمنح الإسلام العقل مجالا واسعا للعمل ، هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد ., وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها ، أو ينكر عليه  حق التفكير.
ونبدأ بالحديث عن الأخيرة لأنها في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة مظنة الحجر علي العقل بغير موجب !
يحظر الإسلام علي العقل أمورا ثلاثة : التفكير في ذات الله ، والتفكير في القدر . والتشريع من دون الله
"تفكروا في خلق ولا تفكروا في الله "
" وإذا ذكر القدر فأمسكوا "
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
وأما الأولي والثانية فالحظر فيها ليس حجرا علي " حرية الفكر " إنما هو صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه ، وإلا فلننظر في " الإنتاج البشري " كله فيما يتعلق بذات الله /، في الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وما يسمي بالفلسفة الإسلامية وعلم الكلام .., إلي أي شئ وصل ؟! وإلي أي شئ كان قمينا أن يصل
لا شئ !
لأنه اقتحام بلا أداة .. أو بغير الأداة الصالحة للوصول
كالمفتاح الذي يدور في القفل ويدور .. والقف لا يفتح.. لأن المفتاح أضأل من أن يفتح القفل !
كما قلنا من قبل : ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ، ولكنه في إصرارنا نحن أن نفتح القفل بغير مفتاحه !
الروح هي أداة الوصول
لا نعرف نحن كيف تصل .. ولكنها تصل ! في لحظة الإشراف .. في لحظة التوهج .. تصل ! وتحس بالوصول ! وتنعم بالوصول ! وليس معني ذلك كما أوضحنا من قبل أن العقل ليس له دور في عملية الإيمان . كلا ! إن له دوره المخصص له لكن الإيمان بالله شئ ، والإحاطة بكنة الذات الإلهية وهو ما يحاوله العقل شئ أخر لا يمكن أن نصل إليه
والذي تصل إليه الروح ليس هو الإحاطة بكنة الذات الإلهية كذلك . إنما هو القرب الذي يتلقي النور ويفيض عليه النور ، فيستغني عن " البحث " في الكنة ن الذي يحاوله العقل ولا يصل إلي شئ منه ! وهذه المشاعر يملكها كل إنسان في لحظات التوجه الصادق إلي الله . وإن كان الإنسان بطبيعته لا يثبت عليها كما تثبت الملائكة الإطهار .. ولا هو مطلوب منه أن يثبت عليها لأن الله لا يكلف كل نفس إلا وسعها
شكا الصحابة رضوان الله عليهم إلي رسول اله صلي الله عليه وسلم أنهم حين يكونون معه يكونون في حال ، وإذا خرجوا من عنده وانساحوا في الحياة تغيرت بهم الحال . فقال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ما معناه إنهم لو ظلوا علي حالتهم التي يكونون عليها وهم في صحبته لصافحتهم الملائكة !
ذلك هو الوصول الذي تقدر عليه الروح .. ولا يستطيع العقل أن يمارسه لأنه ليس من شأنه
وأما القدر فشأنه كذلك ..ليس للعقل فيه مجال ..
إنما يحتاج الإنسان لكي يدرك كيف يجري الله قدرة ، بخيره وشره ، إن يكون علي مستوي الإله ! وذلك أمر لن يكون . فالله وحده هو المتفرد بالألوهية والعلم المحيط بالزمان والمكان والأشياء والأشخاص والأحداث
ومن ثم ضل " العقل " حيثما تكلم في القدر .. واسترح القلب المؤمن المطمئن بذكر الله
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
ومن لم يطمئن قلبه .. وسعي "بعقله" أن يعقل القدر .. فلاي شئ وصل من خلال الفلسفة والفكر والكلام ؟!
كلا ! لم يكن حجرا علي " حرية الفكر" إنما صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه .. ومن أبي أن يلتزم بالحظر فقد إنهك عقله ، وشقي ، ولم يجد في النهاية الظل الذي يفئ إليه من لفحة الرمضاء ! وهي علي أي حال نصيحة يلتزم بها العاقل فيجد فيها الخير ، ويتجنبها من يتجنبها فيلقي جزاء المخالفة اضطرابا وحيرة ولا تستقر .
أما التشريع بغير ما انزل الله فليس الأمر فيه " نصيحة" توجه إلي الناس . إنما هي قضية كفر وإيمان
والقضية علي أي حال ذات شقين ، كلاهما يتعلق بالألوهية وما ينبغي لها في شأن التشريع
الشق الأول من القضية هو المتعلق بمقام الألوهية : من الإله ؟ من المعبود ؟ من صاحب الأمر ؟ وهي كلها مترتبة علي سؤال أولي : نم الخالق ؟ من المدبر ؟ من المهيمن ؟ من صاحب السلطان ؟ الله أم الإنسان؟
فإذا كان الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق ، فقد تحدد مقام الألوهية ومقام العبودية ، وأصبح صاحب الحق في أمر التشريع كما في كل أمر آخر هو الله الخالق لا الإنسان المخلوق.. إلا أن يأذن له صاحب الأمر
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
وقضية الكفر والإيمان أو قضية الجاهلية والإسلام هي دائما هذه القضية ، مصحوبة في الغالب بقضية العبادة بمعني أداء الشعائر التعبدية
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
فالأولي متعلقة بالألوهية : هل الله واحد أم آله شتي ؟ فإذا كان واحد فمن حقه أن يعبد وحده ، أي تقدم الشعائر التعبدية له وحده. والثانية متعلقة بخصيصة من خصائص الألوهية وهي الحاكمة : هل الله الذي يحكم ، فيحل ويحرم ، ويبيح ويمنع ، أم له شركاء في التشريع ، يقولون من عند أنفسهم : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا مباح وهذا غير مباح ، بغير سلطان من الله ؟ فما دام الله واحد في أولهيته ، فالحاكمة من ثم له وحده لأنها خصيصة الألوهية .
والإيمان هو التوحيد في هذه وتلك ، والكفر هو الشرك في هذه أو تلك أو فيهما جميعا
وقضية الجاهلية دائما هي الاستكبار عن عبادة الله سواء كانت العبادة هي أداء الشعائر التعبدية لله وحده ، المترتب علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله ، أو كانت هي التحاكم إلي شريعة الله ، المترتب كذلك علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله .
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر 40/56]
وفي الجاهليات القديمة كلها كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق ، ولكنهم يشركون معه إلهه أخري يضفون عليها بعض صفات الألوهية . اما في قضية التشريع فكان كبراؤهم يتنكبون الطريق ، فيعطون لأنفسم حقا من الحقوق المتعلقة بالألوهية هو حق الحاكمية فيشرعون بغير سلطان من الله ، ويجعلون من أنفسهم أربابا مع الله . وأما المستضعفون فيخضعون لهؤلاء الأرباب المزيفين بحكم ما في أيديهم من السلطان القوي فيعطونهم حق التشريع ، ويستعبدون أنفسهم لهم بالخضوع لما يشرعونه من تشريع فيشترك الذين استكبروا والذين استضعفوا في شرك العبادة ، ثم ينقسمون بعد ذلك إلي سادة وعبيد . السادة يملكون ويحكمون ، والعبيد لا يملكون ولا يحكمون ..إنما يقع عليهم الذل والهوان والضياع والبؤس كشأن كل جاهلية في الماضي .. وكل جاهلية أتية إلي قيام الساعة
أما الجاهلية المعاصرة فقد استكبرت استكبارا من نوع آخر فنفت وجود الله أصلا ، وزعمت أن الطبيعة أو المادة هي الخالق الأزلي الأبدي ذو السلطان . ولكنها في قضية التشريع سارت علي ذات النمط الذي سارت عليه كل جاهلية من قبل ، فاستأثر بالتشريع ذوو السلطان ، وخضع لهم العبيد ، فاستوي بذلك عهد الرق وعهد الإقطاع وعهد الرأسمالية وعهد الشيوعية علي خلاف في الصورة لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في واقع الأمر [2]
هذا هو الشق الأول من قضية التشريع المتعلق بمقام الألوهية . أما الشق الآخر فهو متعلق كذلك بقضية الألوهية ولكن من جانب آخر .
كان الشق الأول من القضية : من الذي يحق له أن يشرع ، الخالق أم المخلوق ؟ أما الشق الآخر فهو : من الذي يحق له أن يشرع ، العلم الخبير أم الذين لا يعلمون ؟
والإنسان في الجاهلية الأخيرة خاصة يزعم أنه هو العليم الخبير ، ومن ثم فهو الذي يحق له أن يضع التشريع
وبصرف النظر عن أن الأصل في القضية هو الاستكبار عن عبادة الله فلننظر في هذا الإنسان الذي يزعم أنه هو العليم الخبير ، كيف يعالج شؤون حياته في معزل عن منهج الله !
كان العمال في الرأسمالية خاضعين للظلم الواقع عليهم من أصحاب رؤوس الأموال ، يسرقون كدحهم ويأكلون جهدهم ولا يعطونهم إلا الكفاف .. ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع ذلك الظلم فابتدع الشيوعية .. فأزيلت الملكية الفردية كلها وأصبحت الدولة هي المالك الوحيد . فوقع الناس جميعا في الذل المهين للمالك الجديد ، يستعبدهم بلقمة الخبز ، فلا يملكون أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة للسيد المعبود!
وكانت المرأة في الجاهلية الأوروبية في عهد الإقطاع مهينة محقرة ، تعير بأنها تحمل وتلد ، ولا تعطي وضعها الإنساني الكريم ، ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع الظلم عن المرأة ورد الإنسانية المفقودة إليها ..فكيف فكر وكف قدر ؟! أخرجها من البيت وشغلها في المصنع والمكتب وجعلها تختلط مع الرجل ،فاشتغل الرجل والمرأة كلاهما بفتنة الجنس ، وفسدت الأخلاق ، وتحطمت الأسرة ،ـ وتشرد الأطفال ، وانتشر الشذوذ ، وفسدت الحياة !
وكانت الكنسية في العصور الوسطي تفسد الحياة كلها بإفساد الدين ، ففكر " الإنسان " في طريقه للإصلاح .. فكيف فكر وكيف قدر ؟ ألغي الدين كله . بل نفي وجود الله أصلا .. ثم راح يتخبط في الظلمات !
هذا هو الإنسان " العلمي الخبير!" الذي يزعم أنه شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلي وصاية الله ! وهذه هي طريقة تفكيره حين يضع لنفسه منهج الحياة !
إنه يقع فريسة لقصور العقل البشري ، وفريسة للهوي والشهوات !
إنما يلزم لمن يضع للإنسان منهج حياته أن يكون بادئ ذي بدء عالما بذلك " الإنسان " ليضع له منهجا علي قده ، ويلزم له أن يكون محيط العلم بماضي ذلك الإنسان وحاضره ومستقبله ، لكيلا يعالج مشكلة بمشكلة جديدة ، ولا يقوم انحرافا بانحراف جديد .. ويلزم له أن يكون منزها عن الغرض ، منزها عن الهوي والشهوات ، ليكون منهجه " موضوعيا " خالصا بالنسبة لحياة الإنسان
فهل كذلك الإنسان ؟! وهل يمكن أن يكون كذلك في يوم من الأيام !
يقول الكسس كاريل عن معرفة الإنسان بنفسه :
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ، ولكنه بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعور وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان ، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسها . أننا لا نفهم الإنسان ككل . إننا نعرف علي أنه مكون من أجزاء مختلفة . وحتي هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل  واحد منا مكون من مكون من الإشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة !
" وواقع الأمر أن جهلنا مطبق . فأغلب الأسئلة التي يلقيها علي أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب .." [3]
ومر بنا من نماذج القصور في رؤية الإنسان وطريقة علاجه للأمور ما يغنينا عن المزيد
إنما الله هو العليم الخبير لا الإنسان !
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} [سورة البقرة 2/216]
{قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)} [سورة الطلاق 65/12]
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة فاطر 35/15]
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)}[سورة النساء 4/26-28]
من أي جانب إذن عالجت قضية التشريع ، فالتشريع هو حق الله تبارك وتعالي ، وليس الإنسان مأذونا ولا هو صالح لوضع منهج حياته .. إلا ما إذن الله له فيه . وسنري في النقاط التالية بأي شئ أذن الله للإنسان ، يعمل فيه عقله ويجتهد فيه .
إذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثى ، التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر ، أو منع منعا حازما منها كقضية التشريع ، فكل المجالات الأخري مباحة للعقل ومتاحة له ، بل هو في الإسلام مدعو إليها دعوة صريحة ، ويعتبر مقصرا إذا لم يقم بها
وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعي العقل للعمل فيها في ظل الإسلام :
أولا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي قدرة الله المعجزة ، وتفرده بالخلق والتدبير والهيمنة والسلطان، بما يؤدي إلي إخلاص العبادة له وحده سبحانه ، وطاعته فيما أمر به وما نهي عنه
ثانيا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي السنن الكونية التي يجري بها قدر الله في الكون ، لتحقيق التسخير الرباني لما في السموات وما في الأرض للإنسان ، من أجل تعمير الأرض والقيام بالخلافة بها
ثالثا : تدبر حكمة التشريع الرباني لإحسان تطبيقه علي الوجه الأكمل ، والاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد
رابعا : تدبر السنن الربانية التي تجري الأمور بمقتضاها في حياة البشر ، لإقامة المجتمع الإيماني الراشد الذي يريده الله .
خامسا : تدبر التاريخ
ولنقل كلمة موجزة عن كل مجال من هذه المجالات
m    m    m

أولا : في قضية الإيمان- كما أسلفنا يخاطب الإسلام الإنسان كله ، بكل جانب من جوانبه ويركز علي الجانب الوجداني لأن العقدية دائما تخاطب الوجدان وتحيي فيه وتتحرك به ، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت ، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل ، للتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلي الحقيقة ، حقيقة الألوهية ، وما يترتب علي معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك
يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق .. خلق الكون وخلق الإنسان .. هل من خالق غير الله ؟
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36)} [سورة الطور 52/35-36]
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/10-11]
ومازال هذا التحدي قائما .. وسيظل قائما إلي أن يرث  الله الأرض وما عليها .. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي ، بالقول بالمصادقة تارة ، وبالخالق الذاتي تارة ، وبأي كلام تارة أخري إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها " العقل " لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات ! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره ، وليصل إلي النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شئ ويتخلي عن الهوي الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل .. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين .
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة المؤمنون 23/91]
وكما يخاطبه ليستيفن من حقيقه الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير .. بطرق استدلالاته الخاصة من استقرار واستنباط وقياس ومنطق ..إلخ يخاطب ليرتب علي يقينه ذلك ما يستتبعه من نبعات .. فإذا كان الله متصفا بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره ، ومن الجدير بالطاعة غيره؟
كذلك يخاطبه ليستيقن الحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا...} [سورة ص 38/27]
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [سورة آل  3/190-194]
إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن عقلا إن يخلق شيئا عبثا ، أوأن يخلق شيئا باطلا ، إنما يخلق كل شئ بالحق ، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس علي ما عملوه في الحياة الدنيا ، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يري الإنسان بنفسه .. فكم من ظالم ظل يظلم حتي مات ، وكم من مظلوم ظل مظلوما حتي مات . فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون علي السيئة والحسنة ، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق ..
وإذا كان الأمر علي هذه الصورة فإن " العقل " يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه ، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من لجنة ويبعده عن النار .. وألا تفتنة اللذة العاجلة عن النعيم المقيم .
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [سورة آل  3/185]
" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور :
وهذا الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان مع العقل لتتربت عليها حركة سلوكية واقعية ، ولكن نصيب العقل فيها واضح لا يحتاج إلي تأكيد
m    m    m

ثانيا : يوجه العقل بعد ذلك إلي تدبير آيات الله في الكون للتعرف علي أسراره . للتعرف علي خواص ذلك الكون ، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض .
والتسخير قائم من عند الله ابتداء :
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك ،فهو ليس إلها يقول للشئ كن فيكون ، إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان ، جهد عقلي يتعرف به الإنسان علي أساس الكون وخواصه ، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج .
وكل ذلك يوجه العقل لآدائه . بل هو ميدانة الأصيل الذي تتجلي فيه كل عبقريته ، والذي لا يشاركه فيه غيره . وليس معني ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولايتوهم ، فكثير ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم ، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلي الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون . ولكنه يوجه إلي ذلك بعد أن يوجه إلي التعرف علي الخالق ، وعلي كل قضايا العقيدة
ولذلك حكمة واضحة
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها علي العقل أن يفكر مفطور بطبعه علي التفكير  فيما حوله ، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته  ، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلي أقصي حد من الاتقان والفاعلية ، من أجل الحصول علي القدر من " المتاع"  الذي قدره الله للإنسان في الأرض .
{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [سورة البقرة 2/36]
ولكن العبرة في حياة " الإنسان " ليست بمجرد العمارة المادية للأرض ، ولا مجرد الحصول علي المتاع من أي لون ومن أي طريق إنما " الإنسان" خلق لشئ أرفع من ذلك وأسمي .. خلق لحمل " الأمانة" التي اشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال :
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
وحمل الإمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي .. إنما يتم بإقامة ذلك كله علي أساس من " القيم " .. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة " وقد رأينا من دراستنا السابقة أن كل ما عداها زائف لا يلبث أن تعبث به الأعاصير " ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولا- والكيان الإنسان كله في الحقيقة للتعرف علي الله والإيمان به وطاعته ، حتي إذا جاء العقل يتعرف علي الكون ، ويعمل علي تسخير طاقاته في عمارة الأرض ، كان مهتديا بالهدي الرباني ، فأقام عمارة الأرض علي أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة .
وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية علي" قيم "أخري غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض ، وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن  التعليق .
فتوجيه العقل في الإسلام إلي التعرف علي السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلي الإيمان بالله ، وهو المنهج الصحيح لتنشئة " الإنسان الصالح" الذي تسعي البشرية نظريا إلي تنشئة ، ولكنها تخفق دائما حين تتنكب المنهج الرباني ، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلي البوار .
وإن كان لن من شئ نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال ، فهو أن الأمة المسلمة ب توجيه الإسلام 0 هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي ، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد ، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة "إنسانية " حقيقية ، تمثل " الإنسان " كل لا جانبا واحد من جوانبه ، وتمثله متوازنا كما ينبغي للإنسان ، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة ، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة ، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض ، ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنة عن السبب الحقيقي ، ولا العلم يفتنه عن الدين .. إلي آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حين رفضت الهدي الرباني وجعلت " عقلها" يرسم لها الطريق !
m    m    m

ثالثا : يوجه العقل في الإسلام إلي تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه ، ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيها بالاجتهاد ، وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين ، لأنه لا يتيسر لكل الناس وإن كانوا مؤمنين إن يتفقهوا في أحكام الدين ـ، إنما الفقهاء لهم استعداد خاص ، ويحتاجون إلي دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان .
ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة فيسقط التكليف عن الآخرين ، فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها أثمة حتي تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر .
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة 9/122]
وأعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة فالتشريع أولا لا ينطبق انطباقا آليا علي كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر
إنما يحتاج الأمر إلي إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم ، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه .
ثم إن هذه التشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلي قيام الساعة ، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير في حياة الناس
فأما الثابت الذي لا يتغير ، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فسادا في الأرض فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات.
وأما المتغير الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة ، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل بحكم تغييره الدائم إنما وضعت له الأسس التي ينمو نموا سليما في داخل إطارها ن وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدي الرباني ، المتفقة في أمور الدين ، أن يستنبط له من  الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من اطواره .
لذلك كان الفقة عملا دائم النمو لا يتفق ، ولا يجوز له أن يتوقف .. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة
ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقة في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع ، ما زال يعد تراثا إنسانيا ثمينا إلي هذه اللحظة ، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود ، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!
والذي يطلع علي هذا الفكر يدرك مدي شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها علي مواكبة النمو البشري من جهة ، ويدرك من جهة أخري ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب ، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام .
m    m    m

رابعا : ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدرة في حياة البشر ، وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير ، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق ، ويوجه العقل إلي تدبر هذه السنن من أجل غقامة المجتمع الصالح الذي يتمشي مع مقتضياتها ولا يصادمها .
فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضي بلا ضبابط . إنما يضبطها نظام رباني دقيق ، يسير بحسب سنن ثابتة ، ترتب نتائج محددة علي السلوك البشري في جميع أحواله . ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه ، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه ، لا رجما بالغيب ، ولكن تحقيقا لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير .
وهذه السنن تتناول حياة الجماعة ، فهي سنن اجتماعية في غالبها . أما ما يرد بشأن الفرد فغالبا ما يكون متعلقا بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا ، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالي :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً " [4]" وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [سورة طـه 20/124]
ونعرض هنا بعض هذه السنن علي سبيل المثال لا الحصر ، فليس همنا تتبعها واستقصاءها ، إنما التنويه بعمل العقل إزاءها .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 8/53]
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [سورة الأنعام 6/65]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [سورة العنكبوت 29/2-3]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [سورة الزخرف 43/23]
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} [سورة غافر 40/84-85]
ونفق وقفة قصيرة عند هذه السنة الربانية :
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [سورة البقرة 2/124]
فقد ابتلي الله إبراهيم عليه السلام بجملة ابتلاءات صبر فيها صبرا جميلا ، وكان قمة الابتلاءات أمره في الرؤيا بذبح ولده الحبيب إسماعيل واستسلامه وولده للأمر الرباني :
{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [سورة الصافات 37/102-105]
ولقد أكرمه الله جزاء نجاحه الباهر في هذه الابتلاءات فاجتباه واتخذه خليلا :
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)} [سورة النساء 4/125]
وجعله للناس إماما .. وتلك نعمة كبري يمن الله بها علي عبادة المقربين .. فلما نال تلك الحظوة عند الله تحركت رغبته البشرية الطبيعية في أن يكون هذا العهد ماضيا في ذريته ، فيكونوا أئمة للهدي ، يهدون الناس إلي الإيمان ، فهل حابه السنة الإلهية وهو في موضع التكريم والتقريب والترحيب ؟ كلا ! لقد كان الجواب حاسما : " لا ينال عهدي الظالمين " أي أن العهد ماض فيهم إذا هم استقاموا علي الطريق ، فإذا ظلموا فلا عهد لهم عند الله . ذلك أن الله لا يمكن للناس في الأرض لأن أباءهم أو أجدادهم كانوا مؤمنين ! بل حين يكونون هم بأنفسهم مستقيمين علي الطريق .. أما الذين يؤثون العهد وراثة ، أو يرثون كتاب الله وراثة أي يتخذونه تراثا !- فيصبح في حسهم أنه كتاب الآباء والأجداد وليس كتابهم هم ، ولاهم مكلفون بتطبيقه ، فأولئك يقول الله فيهم وفي أمثالهم :
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [سورة الأعراف 7/169-170]
والذي يعنينا من هذه السنن هنا كما أسلفنا هو دور العقل في تدبرها ، لا تدبرا نظريا فلسفيا يبدأ في العقل وينتهي في العقل كما كان شأن عقلانية الإغريق . إنما يتدبرها ليعمل بوعي علي إقامة المجتمع الصالح الذي يستحق التمكين في الأرض يمقتضي الوعد الرباني .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...} [سورة النــور 24/55]
وليتجنب النذير الرباني :
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سورة محمد 47/38]
والنذير الآخر
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال 8/25]
لسكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي هو قوام خيرية هذه الأمة
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل  3/110]
فحين تسكت الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبيها الفتنة ولا تصيب الذين ظلموا وحدهم ، ولكن تصيب المجموع كله لتقصيرة في مقوم أصيل من مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية
ولا تقتصر " التوعية " السياسية علي قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إنما تتعداها إلي التوعية بالدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
والتوعية بأعداء هذه الأمة ، ومخططاتهم ضدها ، وأهدافهم من هذه المخططات ، وواجبهما إزاءهم ، وطريقة التعامل معهم في السلم والحرب ، وقضية الولاء ومع من يكون ، وما حدوده وطبيعته .. إلخ .. مما  لامجال لتفصيلة هنا ، فله مباحثه الخاصة ، وإنما نتحدث هنا عن دور " العقل " في كل ذلك .. ودوره هو تدبر السنن الربانية التي يتحصل منها الوعي الاجتماعي والوعي السياسي ، وهو أمر واجب في الإسلام ليتم تنفيذ المنهج الرباني علي وجه الصحيح .
خامسا : يوجه العقل إلي دراسة التاريخ
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} [سورة آل  3/137]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ [5] وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [سورة الروم 30/9]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [سورة الحـج 22/46]
وواضح أن دراسة التاريخ المطلوب هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ ! ولكن ينبغي أن نعرف موطن العبرة من دراسة التاريخ
أن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية ،والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلي تدبرها والتفكر فيا من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم علي المنهج الرباني .. هذه السنن بطبيعتها نادرا ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود ، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق اجيالا متوالية حتي يتم التحول الاجتماعي سواء إلي الخير أو إلي الشر ( فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير ، تأييد لنبي أو تمكينا لجماعة مؤمنة ، كما حدث مع الرسول صلي الله عليهم وسلم وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار )
وأنظر مثلا إلي هذه السنة :
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوروبي في وقته الحاضر .. نسوا ما ذكروا به ، وكفروا وجحدوا ، ففتح الله عليهم أبواب كل شئ ، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة علمية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية .. وكل ما يمكن أن يدخل في " أبواب كل شئ " وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان ، ولد فيه أفراد بل أجيال قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا ، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية ،" حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلي الآبد لا تغلق ولا تتهدم علي أصحابها مهما ارتكبوا من آثام !
واليوم بدا مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن " حضارتهم " آيلة إلي الانهيار .. وبدأو ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن " القيم الروحية" كما يسمونها [6]
أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمما من قبلهم .. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان ؟ جيلا أو اجيالا كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله !
لذلك يوجه الله " العقل " أن تتدبر التاريخ ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها ، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال . والأغلب هو الأخير !
تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون ، ورؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد ، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس ، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها ، ولا يقول قائل لنفسه علي سبيل المثال ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه ! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفس في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي .. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تستند وتنعه من الدمار ! ولا يقول قائل لنفسه : ما قيمة "القيم " ؟ وما فائدة " الدين " ؟ وما معني " الأخلاق " ؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكا قويا بغير ذلك كله عدة قرون ؟
تلك عبرة دراسة التاريخ ..
إن التاريخ لا يدرس من وجهة النظر الإسلامية لتسجيل انتصارات الجيوش وانكساراتها ، ونشاة الدولة وزوالها مجردة عن القيم المصاحبة لها ، وعن مجري السنن الربانية فيها ، إنما يدرس بادئ ذي بدء لتتبع حياة " الإنسان" في حالتيه : حالة الهدي وحالة الضلال ، وما يجري خلال كل من الحاليتين من أحداث ، ونتائج تترتب علي الأحداث ، مضبوطة بالمعيار الذي لا يخطئ ، معيار السنة الربانية الحتمية التحقيق .
و" الإنسان" ابتداء هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، لا " الحيوان " الذي ابتدعه دارون ، ولا " المادة" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ .. ومقياس علوه وهبوطه ليس هو الانتاج المادي والعمارة المادية للأرض :
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} [سورة الروم 30/9]
ولكنهم كانوا جاهلين ، لأنهم رفضوا الهدي الرباني ، وأصابهم في النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار ، علي الرغم من كل القوة التي يملكونها ، ومن إثارة الأرض وعمارتها .
إنما مقايس علو " الانسان " او هبوطه هو مقياس " الإنسانية " .. مقياس التزامه بالهدي الرباني الذي يحقق وحده إنسانية الإنسان ، والتزامه بمقتضيات الخلافة الراشدة ، أي عمارة الأرض بمقتضي المنهج الرباني لا بأي منهج سواه  .
وحين يتحقق هذه الوعي التاريخي لا في صورة فلسفية ذهنية تجريدية ولكن في صورة وعي حركي واقعي ، يكون هذا عونا كبيرا للإنسان الراشد ، يوجه إلي السلوك الناضج المستقيم ، الذي يتحقق به الوجود الأعلي للإنسان .
m    m    m

تلك عقلانية الإسلام .. عقلانية سليمة ناضجة تمثل الرشد البشري في أعلي حالاته
عقلانية تعطي العقل مكانة اللائق به ، بلا  إفراط ولا تفريط .. فلا هي تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شئونه أو تجعله المرجع الأخير لكل شئ حتي الوحي الرباني ، ولا هي تبخسه قدرة فتمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها .
عقلانية تكل إلي العقل مهام خطيرة وواسعة .. تكل إليها مهمة حراسة الوحي الذي تكفل بحفظه الله " [7]من كل تأويل فاسد مضل ، وحراسة أحكام الله من الانحراف بها عن " مقاصد الشريعة " وحراسة المجتمع في الآفات الاجتماعية والسياسية والفكرية والخلقية التي تؤدي إلي تدميره .. كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث التجريبي وعمارة الأرض .
ولكنها لا تكل إليه ولا تسمح له إن يحيد عن الوحي الرباني والمنهج الرباني ، ولا أن يجتهد من عنده ما لم يأذن به الله ، لأنه عندئذ بجانب الصواب ، ويحيد عن الخير ، ويمكن للفساد :
وتلك هي العقلانية المتوازنة .. أين منها عقلانية الإغريق الغابرة ، والعقلانية التجريبية التي يمارسها الغرب في جاهلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين !
m    m    m



القومية والوطنية
الوطنية معناها أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن ، والتعصب له، أيا كانت أصولها التي ينتمون إليها ، وأجناسهم التي انحدروا منها . أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة او الجنس .
والقومية معناها أن أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ينبغي أن يكون ولاؤهم واحدات وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم ،وأن كان معناها أيضا السعي في النهاية إلي توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل ، فيكون الولاء للقومية مصحوبا بالولاء للأرض .. ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض .
وأيا كانت التعريفات النظرية للقويمة والوطنية ، فالذي يهمنا بادئ ذي بدء أن نتعرف علي منشئها في أوربا ، ثم أثارها التي ترتبت عليها في التاريخ البشري الحديث .
كانت أوربا في وقت من الأوقات وحدة سياسية تجمع قوميات ولغات وأجناسا شتي ، في ظل الإمبراطورية الرومانية . ولم يكن هذا التجمع يشكل " أمة " بالمعني الحقيقي . فقد كانت الدولة الأم هي " الأمة" في نظر نفسها وفي نظر المستعمرات التي استولت عليها والحقتها بالإمبراطورية ، كما كانت الدولة الأم هي " السيدة " والمستعمرات هي " العبيد " ولم تمتزج شعوب الإمبراطورية قط في وحدة حقيقية كالتي جمعت الأمة الإسلامية - أمة العقيدة التي انصهرت القوميات والأجناس واللغات فيها في بوتقة العقيدة فصارت أمة واحدة علي مستوي واحد ، وهي " الأمة الإسلامية "
في مجتمع المدينة كان بلال الحبشي وصهيب  الرومي وسلمان الفارسي في القمة من ذلك المجتمع ، مع السادة من قريش ، وكان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول " سلمان منا أهل البيت " وكان عمر رضي الله عنه يقول : " ابو بكر سيدنا ، واعتق سيدنا" إشارة إلي بلال رضي الله عنه ،فكانه وهو في الذؤابة من قريش يقول عن بلال : " سيدنا بلال " وهي قمة لم تصل إليها البشرية في تاريخها كله إلا في أمة العقيدة.
ثم انساح المسلمون في الأرض وفتحوا ما فتحوا من البلاد لا لينشئوا إمبراطورية ولكن لينشور العقيدة . لم تكن توسعه الأرض قط هي التي تهمهم أو تدفعهم إلي الخروج من أرضهم ، ولم يكن ضم موارد جديدة ، واستخدامها أو تسخيرها للدولة الأم لتغني وتكتنز ، خاطرا يدفع قائدا من القواد أو جنديا من الجنود ، إنما كان الدافع الأصيل هو إزالة " الجاهلية " ليحل محلها الإسلام دون إكراه للناس علي عقيدة الإسلام إزالة الجاهلية ممثلة في دول وجيوش ونظم لا تؤمن بالله ولا تطبق المنهج الرباني ، ليحل محلها النظام الإسلامي ممثلا في تطبيق شريعة الله ، وتطبيق العدل الرباني والحكمة الربانية ، مع ترك الناس أحرارا في عقائدهم بإذن الدولة الإسلامية بل بحراستها وحمايتها !
إنها تجربة فريدة في التاريخ ، لم تتكرر ، وليس من شأنها أن تتكرر مع أي نظام آخر ،/ إلا أن يكون نظاما قائما علي العقيدة الصحيحة في الله ، مطبقا لشريعة الله
ومهما يكن من أمر فإن أوربا لم تعرف هذا اللون من التجمع في تاريخها كله ، حتي بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية أو أدعي ذلك وفرضها علي الإمبراطورية كلها عام 325م
وقد كان المفروض حين تصبح الإمبراطورية مسيحية أن يجمعها ذلك اللون من التجمع الذي وحده الأمة الإسلامية فيما بعد ، وصهر أجناسها وألوانها ولغايتها في كيان واحد متحد ، ليس فيه اتباع ومتبوعون ، بل فيه " مسلمون" علي قدم المساواة
ولا شك أن دخول الإمبراطورية في المسيحية قد أنشأ لفترة من الوقت لونا من التجمع الشعوري .. وقد كان هذا هو هدف قسطنطين الحقيقي من دخوله المسيحية ، فلم يكن همة " العقيدة" إما كان همه توحيد الإمبراطورية التي كانت توشك علي التمزق والافتراق .. ولكن هذا التجمع لم يرتق قط إلي الصورة التي مارستها الأمة الإسلامية لأكثر من سبب واحد .
أحد الأسباب أولعله السبب الرئيسي أن الدين لم يصل إلي الأمبراطورية في صورته الكاملة ، إنما وصل إليها  - كما بينا في التمهيد الأول من هذا الكتاب عقيدة مفصولة عن الشريعة ، وقد كان لتلك العقيدة سلطانها علي القلوب ولا ريب ، ولكن لا يستوي الدينان : دين متكامل يحكم مشاعر القلب وواقع الحياة ، ودين ممسوخ ، يقبع في وجدانات الناس ، وقد يحكم بعض سلوكهم الشخصي ، ولكنه عاجز عن حكم الواقع العملي للناس ، يستكبر عنه الأباطرة فيحكمون بالقانون الروماني ولا يحكمون بشرائع ذلك الدين .. ولا يستوي الدينان في أثرهما علي الواقع ، ولا في قدرتهما علي تجميع الناس في صورة "أمة" موحدة :
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر 39/29]
والسبب الثاني أن العقيدة حين وصلت للامبراطورية الرومانية أو حين فرضها عليها الإمبراطور قسطنطين لم تكن علي صورة واحدة ، فقد كانت قد نقسمت إلي مذاهب ومعتقدات شتي- لا في الفروع كما هو شان المذاهب الإسلامية إنما في أصل الاعتقاد ، بحيث لا يمكن أن يلتقي أصحاب مذهب ومذهب علي شئ ، فالدين قد انحصر في العقيدة ، والعقيدة أصبحت عقائد مختلفة متعارضة متعادية .. ويكفي نموذج واحد من هذا التعارض والعداء ـ، وهو ما كان بين الدولة الرومانية وأقباط مصر .. فقد كانوا كلهم " مسيحيين " ولكن الخلاف بين مذهب الدولة الكاثوليكي ومذهب الاقباط الأرثوذكسي كان من السعة وعدم الالتقاء بحيث كان الاقباط يسامون الخسف والعذاب من أجل عقيدتهم ، حتي ليستخفون بها عن أعين الدولة ، ويقام في الكنيسة الواحدة عبادتان مختلفتان، إحداهما علوية ظاهرة والأخري سفلية سرية ، كما كان الحال في كنيسة " مار " [8] " جرجس " حيث كانت تقام صلاة علنية علي مذهب الدولة في أورقة الكنيسة العلوية الظاهرة وصلاة أخري سرية في سراديب تختية خفية ت يختفي فيها الأقباط عن عيون الدولة الرومانية التي تتعقبهم بالعذاب والإرهاب .. وشأن هذا الخلاف ان يمزق ويفرق لا أن يجمع الصفوف ويوحد البناء
وصحيح أن أوربا في مجموعها كانت كاثوليكية لعدة قرون ـ،وكان اتحادها في المذهب عاملا من عومل تجمعها ،ـ كما سنبين بعد ، ولكن حجم هذا التجمع وتأثيره في حياة الناس كان يمكن أن يكون أكبر من واقعة الذي كان عليه ، لو كان فيء حس أصحابه أن دينهم واحد في كل الأرض ، وأنهم ليسوا مجدر قطاع
من هذا الدين وإن يكن القطاع الاعظم تغايره بقية القطاعات في أصول الاعتقاد [9]
فإذا اجتمع إلي هذين السببين أن اللاتينية لغة الكتاب المقدس [10]
لم تكن قط لغة الكلام في الإمبراطورية الرومانية ، وإنما لغة المثقفين ورجال الدين فقط ، إلي جانب كونها اللغة "الرسمية " للدولة وإنما الشعوب داخل الإمبراطورية تتكلم لغات أخري يختلف بعضها عن بعض اختلاف رئيسيا .
إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها وضح لنا أن التجمع الذي تم في ظل الإمبراطورية الرومانية المسيحية لم يكن في شأنه أن يرتقي إلي تكوين " أمة " واحدة علي النسق الذي تم به الأمر في ظل الإسلام ، الذي لم تنفصل فيه الشريعة عن العقيدة ، والذي لم تحدث فيه خلافات عقيدية تمزق وحدته ، والذي كانت لغته لفترة طويلة من الوقت لغة واحدة هي لغة القرآن ؟
ومع ذلك كله فقد كان لسلطان العقيدة  في نفوس المسيحيين الأوروبيين ، وسلطان الكنيسة البابوية من جهة اخري ، تأثيرا ملموسا لا شك فيه ، أوجد لونا من التجمع والوحدة رغم كل أسباب الفرقة والخلاف.
ولكن  حماقات الكنسية التي اشرنا إليها في التمهيد الأول مالبثت أن عملت علي تقويض ذلك التجمع من أكثر من باب
لقد كان طغيانها في كل جانب مثيرا لردود فعل مختلفة تلتقي كلها عند الرغبة في تخطيم نفوذ الكنيسة والتفلت منه ، فضلا عما حدث فيما بعد من النفور من الدين ذاته والانسلاخ منه
وإذا كان الدين ونفوذ الكنيسة هما الرباط الذي أوجد ذلك القدر من التجمع في أوراب فلنا أن توقع أن يكون أثر ردود الفعل المشار إليها هو انفراط عقد هذا التجمع وفصم روايطه . وذلك الذي كان !
كان تمرد الملوك علي طغيان الكنيسة السياسي أول بادرة من بوادر التمزق في الوحدة الأوروبية ولكن هذا التمرد وحده كان يمكن أن يظل محدود الاثر لو لم يصاحبه في ذات الفترة تقريبا تمرد من نوع آخر وفي جهة أخري ، هو أشد خطر علي الوحدة من تمرد الملوك . ذلك هو تمرد رجال الدين ، المعروف باسم " حركة الإصلاح الديني "!
لقد كان تمرد الملوك نزاعا سياسيا علي السلطة الزمنية . البابا يدعي لنفسه السلطة الروحية والسلطة الزمنية كليهما ، والملوك يطالبون بالسلطة الزمنية أن تكون في أيديهم ، علي أن تبقي السلطة الروحية وحدها في يد الباب .. وإلي هنا كان يمكن أن يستقل الملوك بالسلطة الزمنية ولك تظل الوحدة الدينية قائمة ، ويظل السلطان الروحي للبابا قائما ، فتظل الدعامتان اللتان كونتا الوحدة الأوربية قائمتين .
ولكن حركة الاصلاح الديني كانت موجهة إلي صميم العقيدة الجامعة وهي العقيدة الكاثوليكية التي لم تكن حتي ذلك الحين موضع نزاع في داخل أوروبا .
كان من نتيجة الطغيان الروحي للبابا ورجال دينه أن رغبت " كنائس" مختلفة في أوربا أن تنفصل عن كنيسة روما وتستقل عنها ، متخذة في الغالب صورة خلاف مذهبي مع الكاثوليكية التي كانت تخضع لها كل الكنائس من قبل ، فانفصلت كنيسة بريطانية وكنيسة ألمانية وتبعتها كنائس أخري ، وحرص الملوك علي السيطرة علي تلك الحركات لا رغبة في الإصلاح الديني الذي كانت تنشق تلك الكنائس روما باسمه ، ولا رغبة في تنمية روح التدين الحقيقية عند شعوبهم ، فليس شئ من ذلك في صالح السيطرة السياسية المطلقة التي ادعوها لانفسهم حين طالبوا بفصل السلطة الزمنية عن السلطة الرومية ، ولكن لأ، كل حركة تمرد علي الكنيسة البابوية من أي نوع هي كسب لهم في معركتهم ضدها ، لأنها تضعفها وتضعف سلطانها ، فيسهل عليهم التخلص من نفوذها
يقول ولز في كتاب " معالم تاريخ الإنسانية " ( جـ3 مقتطفات من ص 989 991 من الترجمة العربية )
" كانت الكنيسة تفقد سيطرتها علي ضمائر الأمراء وذوي اليسار والاقتدار من الناس , وكذلك شرعت تفقد إيمان عامة الناس بها وثقتهم فيها . وكان من نتيجة انحطاط سلطانها الروحي علي الطبقة الأولي أن جعلتهم ينكرون تدخلها في شئونهم وقيودها الخلقية عليهم ومدعياتها بالسيادة العليا فوقهم .
وادعاءها الحق في فرض الضرائب وفي حل ارتباطات الولاء .. لذلك كفوا عن احترام مالها من سلطان وممتلكات
" و لقد ظل هذا الخروج عن الطاعة يصدر من الأمراء والحكام طوال العصور الوسطي بأكملها، بيد أن الأمراء لم يشرعوا في التفكير جديا في الانفصال عن المذهب الكاثوليكي وإقامة كنائس جزئية منفصلة إلا عندما أخذت الكنيسة في القرن السادس عشر تنضم علنا لخصمها القديم الإمبراطور عندما قدمت إليه التأييد وقبلت منه المساعدة في حملتها علي الهراطقة . وما كانوا ليقدموا علي ذلك أبدا لولا أنهم أيقنوا أن سيطرة الكنيسة علي آذهان الجماهير قد ضعفت .
" ولما انفصلت انجلترة ، واسكتلندة والسويد والنرويج والدانمارك ، وشمال ألمانيا وبوهيميا عن الارتباط بروما ، أظهر الأمراء وغيرها من الوزراء أقصي بوادر القلق والاهتمام بحفظ زمام الحركة في أيديهم .. وذلك أنهم كانوا لا يسمحون من الإصلاح إلا بالقدر الذي يمكنهم من فصهم العلاقة مع روما . فأما ما تجاوز ذلك ، وأما أي انفصام خطر يتجه بالأفكار إلي تعاليم يسوع البدائية ، أو التفسير الفج المباشر للكتاب المقدس فكانوا يقاومونها "
والذي يهمنا الآن بصدد موضوعنا الذي نعالجه ان حركات الانفصال هذه أيا كان العنوان الذي قامت تحته كانت هي البداية لظهور القوميات في أوروبا
يقول الاستاد الندوي ( ص 211 212 من كتاب " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين "
" والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان ، والإنسان ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان ، فجمعت النصرانية الأمم الأوروبية تحت لواء الدين ، وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدة ، واخضعت الشعوب الكثيرة الكنيسة اللاتينية فقلت العصبية القومية والنعرة الوطنية ، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة ، ولكن لما قام لوثر ( 1483-1546) بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية رأي أن من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان بني جنسه ، ونجح في عمله نجاحا لا يستهان بقدره ، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبه الأمر فانفرط عقدها ، واستقلت الأمم ، واصبحت لا تربطها رابطة ولم تزل كل يوم تزداد استقلالا في شئونها وتشتتا ، حتي إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية . وكان الدين والقومية ككفتي ميزان ، كلما رجحت واحدة طاشت الأخري .. ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تخف كل يوم ، ولم تزل كفة منافستها راجحة . وقد أشار إلي هذه الحقيقة التاريخية الانجليزية المعروف لورد لوثين السفير البريطاني في أمريكا في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938م.
وربما يعجب الإنسان لأول وهلة حين يعرف أن " حركة الإصلاح الديني " هذه كانت نابعة من مؤثرات إسلامية ، ومع ذلك لم تؤث الثمار الطيبة التي كان يمكن أن تنشأ عنها . ولكن العجب يزول حين يدرك الإنسان أوربا وهي تقتبس جزئيات من الحياة الإسلامية كانت ترفض الإسلام ذاته بدافع العصبية الصليبية ، ومن ثم يضيع الخير الجزئي الذي اقتبسته من الإسلام !
ولسنا هنا بصدد رصد المؤثرات الإسلامية التي انتجت حركة الاصلاح الديني في أوربا ، وكيفينا أن نشير إلي كلمة الفاروالقرطبي التي نقلناها في الفصل السابق عن تأثير شباب النصاري في الأندلس بالوجود الإسلامي هناك ، إلي حد أنهم كانوا ينظرون بزراية إلي كتب اللاهوت المسيحي ويعتبرونها غير جديرة بالالتفات . ولنا أن نتوقع أن تأثيرات مشابهة ولو كانت علي درجة أقل قد سرت في أوربا عند احتكاكها بالمسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الاحتكاك السملي حني بدأت أوروبا مبعوثيها إلي مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من البلاد الإسلامية ليتعلموا العلم ، حيث لم يكن هناك علم في الأرض إلا عند المسلمين .
وقد رأي النصاري عند احتكاكهم بالمسمين عالما مختلفا تمام الاختلاف ، عالما لا كنيسة فيه ولا " بابا " ولا رجال دين .. إنما فيه علماء يتفقهون في الدين ، وغالبا ما يتفقهون في علوم أخري مع العلوم الدينية كالطب أو الفلك أو الرياضيات ..إلخ .. بلا تعارض بين تفقههم هنا وهناك .. وليس لهم مع تفقههم كهانة علي الناس ولا سلطان إلا توقير العلماء من أجل علمهم فحسب ، ولا وساطة لهم بين الناس وبين ربهم الذي يعلمهم أنه لا وسطاء ولا شفعاء عنده ، وأنه ما علي العباد إلا أن يدعوه ، فيستجيب لهم بلا وسيط :
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [سورة غافر 40/60]
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [سورة البقرة 2/186]
عندئذ تحركت نفوس الذين يرغبون في الإصلاح لمحاولة إصلاح مفاسد الكنيسة المتراكمة خلال القرون ، وخلع السلطان الطاعي الذي فرضه الباب ورجاله علي الناس باسم الدين ، ولكن محاولاتهم كانت كالرقعة في الثوب الخلق بسبب رفضهم الدخول في الإسلام ، وسعيهم إلي الإصلاح بغير عدته الحقيقية التي تؤدي إليه .. واستغل الملوك هذه الحركات لحسابهم الخاص كما أسلفنا ، لا يريدون الإصلاح الديني الحقيقي ولا يريدون للناس أن يستقيموا علي دين صحيح فيخرجوا علي طاعتهم ! إنما رأوا فيها أداة تساعدهم علي الإنسلاخ من سلطان الباب فاستغلوها في هذه الحدود
ولم يكن الملوك وحدهم وراء اللعبة ، إنما كان وراءها كذلك اليهود ، المتربصون لأية فرصة تسنح لهم للانتقال من النصاري الذي اضطهدوهم وأذلوهم علي أساس أنهم تسببوا في صلب السيد المسيح " [11] فلما قامت حركات تؤذن بتفريق كلمة النصاري وتشتيت سلطان الكنيسة ، كان من صالحهم ولا شك أن يحتضنوها ويوجهوها خلسة أوعلانية لتوسيع الشقة بينها وبين الكنيسة الأصلية ، وكل فرقة =- سواء قامت باسم الإصلاح أو بهدف الإفساد هي في النهاية في صالح اليهود ما دامت لا تؤدي إلي إصلاح حقيقي ‍‍‍! وإن صلة اليهود بالبروتستانتية بالذات لأمر معلوم لكل من يدرس تاريخ تلك الحركة وإن انكر تلك الصلة هؤلاء وهؤلاء
هكذا كان مولد القوميات في أوربا
حركات إصلاحية مبتورة غير ناضجة ، أستغلها ذوو الأهواء لحسابهم الخاص ، فأفسدوها وحولوها إلي اتجاه شرير .
إن القومية في ذاتها نزعة غير إنسانية ، لا يتوقع أن ينشأ منها إلا الشر ، إنها بادئ ذي بدء تحد عالم " الإنسان" فبدلا من أن يكون أفقه العالم  والإنسان ، إذا أفقه هو قومه  ، والرقعة الضئيلة من هذا العالم التي يسكن فيها قومه ، وهي مصالح مادية يتعارك عليها مع غيره من الهابطين مثله إلي دركه ، كالمصالح " التي يتعارك عليها الحيوان ، من أرض وكلأ إذا كان من الضعاف أكله العشب ، أو أرض وصيد إذا كان من الوحوش التي يفترس القوي منها الضعيف !
ثم إنها تقيم تجمعها علي الأمور التي لاخيار فيها للإنسان .. من المولد في أرض معينة ، والكلام بلغة الأرض التي ولد فيها ، والمصالح المادية القاهرة ، في الوقت الذي تنبذ فيه كل الأمور التي يكون للإنسان فيها الخيار ، والتي يتفاضل فيها إنسان علي إنسان بناء علي ذلك الخيار .. تنبذ العقيدة في الله ، التي يختار فيها الإنسان بين الإيمان والكفر ، ويتفاضل الناس فيها علي أساس الإيمان والكفر .. وتنبذ القيم المنبثقة من العقيدة ، وهي نظافة المشاعر ونظافةا لسلوك مع الأصدقاء والاعداء سواء .. أي الصدق مع كل الناس ، والأمانة مع كل الناس ، والعدل مع كل الناس ، ثم الحب في الله والبغض في الله ( لا للمصالح الأرضية ) أي الحب لمن هو جدير بالحب بالفعل بالمقاييس الانسانية الرفيعة ، والبغض حقا بتلك المقاييس .. وهي القيم التي يختار فيها الإنسان بين الالتزام وعدم الالتزام . أي بين الرفعة والهبوط ..
أنظر في مقابل ذلك هذه الآية الكريمة من القرآن :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49/13]
فكون الناس شعوبا وقبائل ، هذه حقيقة واقعة ملموسة ، وهي من إرادة الله لأنه هو الذي " جعل " الناس كذلك ، ولكن الله لم يشأ سبحانه أن ينحبس الناس في داخل شعوبهم وقبائلهم وينغلقوا في حدودها وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بادئ ذي بدء ، ولا أراد للناس أن يلتقوا من داخل الإطار الذي تشكله شعوبهم وقبائلهم في عراك مع الشعوب والقبائل الأخري ، وهو ما تفعله القوميات الوطنيات بعد ذلك أي بعد انحسارها في داخل حدودها ، وبحثها عن " مصالحها القومية "!
إنما جعل الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا .. يتعارفو كما بنو الإنسان .. لأن الخطاب في الآية كان للناس : " يا أيها الناس .. " لا للوحوش ولا للأفاعي ولا للحشرات ! ثم قرر الله قاعدة التعارف التي تليق ببني الإنسان حني يتعارفون ، وهي التقوي " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وهي الكلمة الجامعة لكل ما في الحياة الإنسانية من معاني الخير ..
ولكن الجاهلية الأوروبية ما كان لها أن تهتدي إلي هذه المعاني وهي ترفض أصل الهدي ومنبعه ، وهو الإسلام .. ولو اهتدت إلي شئ من تلك المعاني لا ستصغرت الأفق الذي تجور فيه القومية والوطنية وأحست نحوه بالأزدراء ! ففي اللحظة التي تحس أنو الرباط الحقيقي الذي يربط " نفسا إنسانية " بنفس أخري إنسانية ليس هو المصالح المادية ، ليس هو الأرض والكلأ والمتاع الحسبي ، وليس هو الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها من الأرض والمولد واللسان والدم .. إنما هو " المشاعر " التي ميزت الإنسان من لحظة مولده عن سائر المخلوقات من دونه ، وهي العقيدة الواعية في الله ،ـ والقيم المتعلقة بالعقيدة من نظافة سلوكية مع الناس ، وحب في الله وبغض في الله في اللحظة التي ترفع فيها إلي ذلك المستوي ستحس علي الفور بأن ما تمارسه القوميات والوطنيات هبوط لا يليق " بالإنسان " ! ونكسة إلي الوراء في ميزان " الإنسانية " وليس تقدما إلي الأمام !
وعلي الرغم من أن هذه الجاهليات قد حاولت أن تستعير من الإسلام رقعة ترقع بها ثوبها الخلق ، فيما يسمي بحركة الإصلاح الديني ، فإن رفضها الأساسي لأصل الهدي وقاعدته الحقيقية قد جعل هذه الرقعة تضيع ضياعا كاملا في ذلك الثوب .. وسرعان ما بليت الرقعة كما بلي الثوب من قبل ، وألقي صاحب الثوب ثوبه البالي كله ، وخرج من الدين ، واستبدل به قوميات علمانية لا صلة لها بالدين ، أقصي ما يتسع صدرها له ان تتسامح في وجوده فلا تنبذ أصحابه ولا تطاردهم ، وإن كانت كثيرا ما يضيق صدرها به وبهم ، فتلفظهم لفظا وتلقي بهم خارج الساحة ، إن لم تفعل ماهو أسوأ من ذلك كثيرا ، فتلقيهم في غياهب السجون !
علي أن الشر الذي نجم من القوميات والوطنيات لم يكن شرا شخصيا ينتهي أمره بهبوط أصحابه عن إنسانيتهم ، وقبوعهم في داخل حدودهم وهم متشحون بذلك الهبوط .كلا ! ليس ذلك من " شم " القوميات والوطنيات ، إلا أن تكون في حالة من الضعف الشديد لا تقدر فيها علي العدوان ! أما أن كانت في حالتها " الطبيعية " أي تملك وسائل القوة ، فإن أول ما تتجه إليه هو السعي إلي توسيع رقعتها علي حساب قومية اخري أضعف منها ، أو تظن فيها أنها أضعف منها ! كما يسعي الوحش إلي الصدام مع من يتوسم فيه الضعف ليفترسه !
يقول الاستاذ الندوي بعد النص الذي نقلناه :
" لما قضت حركة لوثر التي تدعي حركة إصلاح الدين علي وحدة أوروبا الثقافية والدينية انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة ، وأصبحت منازعاتها ومنافساتها خطرا خالد علي أمن العالم[12]
وبالفعل نشب صراع عنيف داخل أوربا بين هذه القوميات الناشئة بعضها وبعض
ولنأخذ مثالا واحدا علي ذلك ما يعرف في التاريخ الأوربي بالحروب الإيطالية
يقول الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي أستاذ التاريخ الحديث بقسم الدراسات العليا بكلية البنات الإسلامية بجامعة الأزهر في كتابه " أوربا في مطلع العصور الحديثة " تحت عنوان" تعريف بمصطلح الحروب الإيطالية " :
" الحروب الإيطالية هي حروب منقطعة نشبت بين فرنسا وأسبانيا خلال فترة استطالت خمسة وستين عاما ( 1494-1559 ) وكانت هذه الحروب مظهرا من مظاهر التنافس الدولي بين هاتين الدولتين من أجل السيطرة والنفوذ في أوروبا ، والرغبة في التوسع الإقليمي داخل القارة ، وقد بدأ هذا التنافس بين فرنسا وأسبانيا قبل أن يلفظ القرن الخامس عشر أنفاسه الأخيرة ،واقترن بصراع حربي مرير خاضته الدولتا ، وكانت شبه الجزيرة الإيطالية ميدانيا لتصارع الجيوش الفرنسية والأسبانية خلال المراحل الأولي لهذه الحروب التي تطورت بعد ذلك إلي نضال أوربي استع نطاقه وانتقل إلي ميادين متعددة خارج شبه الجزيرة الإيطالية [13]
ثم يقول بعد ذلك بصفحات تحت عنون " الموقف الدولي عند نشوب الحروب الإيطالية
" كانت فرنسا وأسبانيا قد تطلعتا إلي إيطاليا واستهدفتا تحقيق غرضين هما : التوسع الإقليمي بالاستيلاء علي ممتلكات جديدة في شبه الجزيرة الإيطالية ، ثم السيطرة والتفوق السياسي في القارة الأوروبية ،. كانت كل منهما تمثل الدولة الملكية الموحدة ذات الحكومة المركزية ن وكانت كما منهما أيضا ، ( والقرن الخامس عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة ) في طليعة الدول اللاتينية والكاثوليكية في غرب أوربا ، وقد بلغت كلتاهما مستوي من التقدم الحضاري الثقافي والمادي يفوق كثيرا المستوي السائد في شرق أوربا ، وكان من المتوقع أن تركز هاتان الدولتان جهودهما لتنشيط حركة البعوث الكشفية الجغرافية لتحقق مزيد من النجاح بعد أن بدت تباشير اكتشاف عالم جديد يتيح أفاقا جديدة رحيبة للتجارة والثراء والقوة ولكن بدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة رحيبة للتجارة والثراء والقوة ، ولكنبدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة امتدت زهاء خمسة وستين عاما في صراع مرير استهدف السيطرة علي إيطاليا ، وأنظر بهم جميعا اضرار فادحة ، وأذل بلادا متحضرة شهدت مولد النهضة الأوربية في فجر التاريخ الحديث .. وقد أدي هذا الصراع إلي أفول النهضة الأيطالية ، وخضوع إيطاليا لصرامة الحكم الأجنبي [14]
ولنستعرض فقط بعض عناوين الكتاب ذات الدلالة علي الدوامة التي اجتاحت أوربا في ذلك الحين بسبب التنافسات القومية : أحلام شارل الثامن ملك فرنسا مقدمات التدخل الفرنسي في إيطاليا الزحف الفرنسي الخاطف علي إيطاليا نحاج انسحاب الجيش الفرنسي من إيطاليا هزيمة ملكة نابولي بابا جديد يكتل نصف أوربا ضد جمهورية البندقية الحلف المقدس ضد فرنسا سنة 1511 انتصار الفرنسيين في معرفكة رافنا سنة 1512- توسيع قاعدة الحلف المقدس ضد فرنسا انتكاس فرنسا عسكريا انتقام البابا اطماع البابا عودة إلي سياسة الأحلاف العسكرية القوات السويسرية تحسم الموقف لصالح حلف مالين اطماع فرنسوا الأول ملك فرنسا موقعة مارينيان ونتائجها اشتداد المنافسة بين ملكي فرنسا وأسبانيا علي منصب الإمبراطور انتخاب ملك أسبانيا إمبراطورا عودة إلي الصدام المسلح عدوان ثلاثي علي فرنسا معركة باقي ( 24 من فبراير 1525 ) الموقف الداخلي في فرنسا بعد كارثة باقي حملة سنة 1528 فرنسا تحرز انتصارات خاطفة جيش فرنسي جنوبي إيطاليا يضطر إلي التسليم هزيمة جيش فرنسا في شمال إيطاليا وأسر قائدة أسباب التعجيل في عقد الصلح تجدد الحرب ومعركة سيريزول استمرار الصراع بين فرنسا وأسبانيا علي عهد هنري الثاني الصدام السملح بين فرنسا والإمبراطورية استمرار الصراع الحربي علي عهد فيليب الثاني البابا يورط ملك فرنسا في صدام مسلح ضد ملك أسبانيا الجديد فرنسا تتعرض لهزيمة محققة فرنسا تنتزع ثغر كالية من انجلترا نهاية الحروب الإيطالية !!
وهذه كلها حرب واحدة من الحروب العديدة التي جرت في أوروبا علي فترات متتابعة .. وتكفي حروب نابليون الشهيرة مثلا ثانيا علي تلك الروح الشريرة التي اجتاحت أوربا منذ ظهرت فيها حمي القومية ، ولسنا في حاجة إلي تتبع تفصيلاتها فلن يزيدنا ذلك  معرفة بتلك الروح التعسة ، كما أن قصة نابليون بصفة عامة معروفة عند كثير من القراء .
ثم  جد عامل جديد زاد من حدة الصراع .. ذلك هو الثورة الصناعية ..
إن " أخلاق " الثورة الصناعية هي " الاخلاق " اليهودية أن سميت هذه أخلاقا أي السعي إلي الربح بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة ، ولم يكن غيريبا أن تتخلق الثورة الصناعية بهذه الأخلاق الهابطة ، منذ كانت خاضعة للسيطرة اليهودية منذ نشأتها ، كما بينا في التمهيد الثاني من هذا الكتاب [15]
ولما كانت القوميات قد اتجهت اساسا إلي تحقيق " المصالح القومية " بصرف النظر تماما عن " المصالح الإنسانية " .. وإذا كانت المصالح القومية مصالح مادية بالدرجة الأولي .. فنستطيع أن نتصور الحال حين تدخل القوميات بصراعاتها المادية في دوامة الثورة الصناعية ، فإن هذه الصراعات لابد أن تتضاعف عدة مرات ، ولا بد أن تأخذ صورة الصراع المادي البحت ..
وكانت " الفلسفة " التي قام عليها هذا الصراع إن سميت هذه فلسفة هي الفلسفة الرأسمالية المتذرعة بقول الداروينية ": " البقاء للإصلاح " [16] ولما كانت كل قومية تزعم لنفسها أنها هي الأجدر بالبقاء ، وتريد أن تثبت ذلك بالفعل ، فلنا أن نتصور كيف يعنف الصراع بين القوميات المختلفة ويصل إلي حد الوحشية ! وتموت في دوامة الصراع الوحشي كل المعاني " الإنسانية " ويسمي هذا " تقدما" حسب التفسير الدارويني للحياة ، والتفسير المادي للتاريخ !
ومع الثورة الصناعية الرأسمالية المتلبسة في ذات الوقت بالقومية ، اتسعت رقعة " الاستعمار :
لقد كان الاستعمال الأوربي في منشئة دفعة صليبية بحتة
فحين سقطت الاندلس في يد المسيحيين  أصدر الباب قرارا بتقسيم أرض " الكفار " أي المسلمين !- إلي دولتين هما أسبانيا والبرتغال [17] وقامت محاكم التفتيش بمجهود وحشي ضخم للقضاء علي بقايا الإسلام في الأندلس ، فاستخدمت أبشع وسائل التعذيب التي عفها التاريخ لمطاردة الإسلام في كل شبر من أرض ما صار يسمي أسبانيا والبرتغال ، حتي صارت الهينمة في جوف الليل مبررا لدخول رجال التفتيش أي بيت تسع فيه ، لأنها مظنة قراءة القرآن سرا في هداه الليل ، وصار وجود حمام في أي بيت يدخل رجال التفتيش مبررا لصب أفظع ألوان التعذيب علي اهله ،لأن الحمامات داخل البيوت كانت في ذلك الوقت خصيصة من خصائص المسلمين ! ومع ذلك كله فقداستغرق الأمر مائتي عام حتي أفلح التعذيب الوحشي في تنصير الأندلس كلها ، ومحو كل أثر الإسلام فيها .
ولما تم " رسميا" إزالة الحكم الإسلامي أي منذ 1492 م شجع الباب النصاري علي متابعة المسلمين خارج الأندلس ، في حرب صليبية جديدة ، بغية القضاء علي الإسلام في كل الأرض . ولكن وجود الدولة العثمانية القوية في الشرق ، التي أزلت الدولة البيزنطية باستيلائها علي القسطنطينية عام 1453م ، لم يكن يتيح للحرب الصليبية الجديدة أن تتجه إلي الشرق نحو بيت المقدس كما اتجهت الحروب الصليبية الأولي الفاشلة ، فحاولت الدور أن حول العالم الإسلامي من جهة الغرب ، وكانت البرتغال أول دولة استجابت للتحريض البابوي وسارعت إلي تنفيذ .
في عام 1497 قام فاسكودادجاما برحلته الشهيرة التي كشف فيها للأوربيين طريق رأس الرجاء الصالح [18] وبمعاونة البحار العربي المسلم " ابن ماجد" وعلي هذي الخرائط الإسلامية للشواطئ الأفريقية والآسيوية [19] ، دار فاسكوداجاما حول افريقيا متجها إلي الشرق حتي وصل إلي جزر الهند الشرقية ، وهنا كقال قولته  الصليبية المشهورة ، التي تقطع بأن رحلته كما قيل عنها ، فقد قال عند وصله إلي تلك الجزر " الآن طوقن عنق الإسلام ، ولم يبق إلا جذب الحبل ليختنق فيموت !
وبعد ذلك تتابعت :" الكشوف " " وتتابعت " الرحلات العلمية " التي مهدت للاستعمار الصليبي للعالم الإسلامي ..
ولما برزت القوميات في أوربا تلبست بالروح الصليبية تجاه المسلمين ن فأصبح التنافس يتمثل من بين ما يتمثل في التنافس علي استعمار العالم الإسلامي ، ومحاولة تنصير أهله عن طريق الحملات التبشيرية التي صاحبت الأستعمار الصليبي دائما ، ممهدة له أحيانا ، ومستندة إلي وجوده أحيانا ، ولكنها مصاحبة له علي الدوام !
وحتي حين أصبحت تلك القوميات "علمانية " تماما لم يؤثر ذلك في صليبية الحملات الاستعمارية ولا قللت مقدار ذرة نم النشاط التبشيري المصاحب للاستعمار الصليبي .
وقد يبدو ذلك تناقضا لأول وهلة .. فكيف تهمل أوروبا " الدين" في حياتها الخاصة ، ثم تتذكره في الهجوم علي العالم الإسلامي ؟ الواقع أن الذي تذكرته أوروبا ولا تزال إلي هذه اللحظة تتذكره تجاه العالم الإسلامي ليس هو " الروح الدينية " فقد انسلخت أوربا من دينها تماما .. إنما هو " الروح الصليبية " التي كانت ذات يوم متلبسة بالدين ، ولكنها ظلت علي ضراوتها حتي بعد أن فقدت منبعها الأصلى ، وصارت شيئا قائما بذلته ، لا علاقة له بتدين أصحابه .. إنما هى كراهية وحقد ومقت للإسلام والمسلمين ، لا لحساب النصرانية كدين ، ولكن لحساب الأوروبيين بوصفهم أعداء للمسلمين .
يقول ليوبلدفايس (محمد أسد) فى كتابه " الإسلام على مفترق الطرق " :
إن الاصطدام العنيف الأول بين أوروبة المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر أى الحروب الصليبية يتفق مع بزوغ فجر المدنية الأوروبية . فى ذلك الحين أخذت هذه المدينة وكانت لا تزال على اتصال بالكنيسة تشق سبيلها بعد تلك القرون المظلمة التى تبعت انحلال رومية . حينذاك بدأت آداب أوروبة ربيعا منورا جديدا . وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التى قام بها القوط والهون والآفاريون . ولقد استطاعت أوروبا أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة فى أوائل القرون الوسطى ، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدا ، وعن طريق ذلك الوعى كسبت أيضا حسا مرهفا . ولما كانت أوروبة فى وسط هذا المأزق الحرج حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائى بالعالم الإسلامى .. إن الحروب الصليبية هى التى عينت فى المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروبة من الإسلام لبضعة قرون تتلو ، فى العهد الذى كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها " [20]"  ، وكانت لا تزال فى طور تشكلها . والشعوب كالأفراد ، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التى تحدث فى أوائل الطفولة تظل مستمرا ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية ، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرا عميقا ، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية فى الدور المتأخر من الحياة ، والمتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة التى تمحوها إلا بصعوبة ، ثم يندر أن تزول آثارها تماما . وهكذا كان شأن الحروب الصليبية ، فإنها أحدثت أثرا من أعمق الآثار وأبقاها فى نفسية الشعب الأوروبى . وإن الحمية الجاهلية العامة التى أثارتها تلك الحروب فى زمنها لا يمكن أن تقارن بشئ خبرته أوروبة من قبل ولا اتفق لها من بعد ..
" ومع هذا كله فإن أوروبة قد استفادت كثيرا من هذا النزاع . إن " النهضة " أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص ، كانت تعزى فى الأكثر إلى الاتصال المادى بين الشرق والغرب . لقد استفادت أوروبة أكثر مما استفاد العالم الإسلامى ، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل : وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام ، بل كان الأمر على العكس ، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ، ثم استحالت عادة . ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبى كلما ذكرت كلمة " مسلم " ولقد دخلت فى الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت فى قلب كل أوروبى ، رجلا كان أم امرأة . وأغرب من هذا كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافى . ثم جاء عهد الإصلاح الدينى حينما انقسمت أوروبة شيعا ، ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها فى وجه كل شيعة أخرى ، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها . وبعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الدينى فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر .
" ولقد يتساءل بعضهم فيقول : كيف يتفق أن نفورا قديما مثل هذا وقد كان دينيا فى أساسه وممكنا فى زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية يستمر فى أوربة فى زمن ليس الشعور الدينى فيه إلا قضية من قضايا الماضى !
" ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدا ، فإنه من المشهور فى علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التى تلقنها أثناء طفولته ، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة والتى كانت من قبل تدور حول هذه الاعتقادات المهجورة فى قوتها تتحدى كل تعليل عقلى فى جميع أدوار ذلك الإنسان ، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلام . فعلى الرغم من أن الشعور الدينى الذى كان السبب فى النفور من الإسلام قد أخلى مكانه فى هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية ، فإن النفور القديم نفسه قد بقى عنصرا من الوعى الباطنى فى عقول الأوروبيين . وأما درجة هذا النفور فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر ، ولكن وجوده لا ريب فيه . إن روح الحرب الصليبية فى شكل مصغر على كل حال ما زال يتسكع فوق أوروبة ، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامى موقفا يحمل آثارا واضحة من ذلك الشبح المستميت فى القتال " " [21]" .
ويقول " ولفرد كانتول سميث " المستشرق الكندى المعاصر فى كتاب " الإسلام فى التاريخ الحديث Islam in Modern History :
" إلى أن قام كارل ماركس وقامت الشيوعية ، كان النبى (يقصد الإسلام) هو التحدى الحقيقى الوحيد للحضارة الغربية الذى واجهته فى تاريخها كله ، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدى حقيقيا ، وكم كان يبدو فى يوم من الأيام تهديدا خطيرا حقا .
" لقد كان الهجوم مباشرا ، فى كلا الميدانين الحربى والعقيدى ، وكان قويا جدا . ولا شك أنه بالنسبة للمسلمين يبدو أنه الحق والصواب ، والأمر الطبيعى المحتوم ، أن يمتد الإسلام كما امتد . ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لشخص الواقع خارج نطاق الإسلام ، الذى لم يكن يرى فيه شيئا من ذلك كله ، والذى كان التوسع الإسلامى يقع على حسابه . وقد كان هذا التوسع إلى حد كبير على حساب الغرب . فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة " أجمل مقاطعات الإمبراطورية الرومانية " لتتسلمها منها القوة الجديدة ، وكانت فى خطر من ضياع الإمبراطورية بكاملها . وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع تماما فى يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا ، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة . وفى موجة التوسع الإسلامى الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453 ، وفى قلب أوروبا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفينا سنة 1529 بينما ظل الزحف الذى بدأ عنيدا لا يلين ، مستمرا فى طريقه . وحدث ذلك مرة أخرى فى وقت قريب لم يتطاول عليه العهد فى سنة 1683 ، وإن وقوع تشيكوسلوفاكيا فى قبضة الشيوعية عام 1948 لم يكن له قط فى العصر الحديث ذلك الفزع فى نفوس الغرب المتهيب ، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن ، من تلك القوة الضخمة المهددة التى كان لا تكف ولا تهدأ ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة .
" وكما هو الأمر مع الشيوعية كذلك كان التهديد والانتصارات (الإسلامية) قائمين فى عالم القيم والأفكار أيضا . فقد كان الهجوم الإسلامى موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع .. وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسى للعقيدة المسيحية ، التى كانت بالنسبة لأوروبا العقيدة السامية التى أخذت فى بطء تبنى حولها حضارتها .. وكان التهديد الإسلامى موجها بقوة وعنف وكان ناجحا ومكتسحا فى نصف العالم المسيحى تقريبا .. والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التى انتزعت من بين المسيحيين أناسا دخلوا فى الدين الجديد وآمنوا به .. بعشرات الملايين . وهو القوة الوحيدة التى أعلنت أن العقيدة المسيحية ليست مزيفة فحسب ، بل إنها تدعو إلى التقزز والنفور .
" وإنه لمن المشكوك فيه أن يكون الغربيون حتى أولئك الذين لا يدركون إطلاقا أنهم اشتبكوا فى مثل هذه الأمور قد تغلبوا قط على آثار ذلك الصراع الرئيسى المتطاول الأمد .. أو على آثار الحروب الصليبية التى استغرقت قرنين من الحرب " العقيدية " العدوانية المريرة " " [22]" .
وفى هذا وذاك تفسير لهذه الظاهرة التى تبدو غريبة لأول وهلة ، وهى أن أوروبا قد أهملت الدين فى حياتها ، ولكنها لم تنس الروح الصليبية التى أججتها ظروف الحرب والصراع فى نفوسهم من قديم .
m    m    m

وحين قامت الثورة الصناعية اتسم " الاستعمار " عامة بالصبغة الاقتصادية لأنه كان بحثا عن الموارد الرخيصة من جهة ، والأسواق المضمونة لتوزيع فائض الإنتاج من جهة أخرى .. وشمل الاستعمار كل أرض مستضعفة سواء كانت أرضا إسلامية أو غير إسلامية . ومع ذلك لم ينس الصليبيون صليبيتهم إزاء المسلمين . فحيثما كانت الأرض المستعمرة غير إسلامية اكتفى الاستعمار بنهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج .. أما حيث تكون الأرض إسلامية فالعناية الأولى موجهة لمحو الإسلام عن طريق التبشير والغزو الفكرى ومناهج التعليم التى تفرض على المسلمين ووسائل الإعلام التى توجه إليهم . ثم يأتى بعد ذلك نهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج . وخير مثال لذلك استعمار البريطانيين للهند . فقد كان أول عمل لهم هناك هو إزالة الحكم الإسلامى فى الهند . ثم تركوا الهنود لمعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لم يتعرضوا لهم بشئ ، ووجهت الحرب الضارية ضد المسلمين وحدهم ، فصودرت الأوقاف المرصودة للتعليم الإسلامى فجفت منابعه ، وحورب المسلمون فى الوظائف العامة وأعطيت للوثنيين الهنود ، ووجه الغزو الفكرى ضد المسلمين لإخراجهم من حقبة الإسلام !
وأيا ما كان الأمر فقد ارتبطت القوميات فى أوروبا بالاستعمار بكل سفالاته ، وكل بشاعاته ، ونشبت الحروب بين القوميات المختلفة أبشع ما تكون .. وصارت نهاية الأمر حروبا عالمية ، تشترك فيها كل القوميات ، ويصلاها العالم كله بذنب وبغير ذنب .
فى الحرب الكبرى الأولى التى استمرت من 1914 1918م قتل عشرة ملايين شاب ، غير الذين شوهوا أو أصيبوا إصابات تقعدهم عن العمل ، واستخدمت الغازات السامة والقنابل المحرقة وغيرها من الوسائل الإجرامية ، التى لم تجد أوروبا فى ضميرها حرجا من استخدامها ، لأن الغاية تبرر الوسيلة ، ولأن المصالح القومية مقدمة على كل اعتبار !
صحيح أنه كان هناك تكتل بين مجموعة من القوميات سمت نفسها " الحلفاء " لأنها فى لحظة من اللحظات وجدت أن مصالحها القومية رغم اختلافها فيما بينها وتنافسها تقتضى التجمع لتحقيق هدف مشترك .. وكان الهدف فى الحرب الأولى مزدوجا : القضاء على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية لأمر يراد " [23]"  - والقضاء على القومية الألمانية التى تطالب بأن يكون لها مستعمرات كما لبقية القوميات مستعمرات .. !!
وربما يظن الإنسان لأول وهلة أن أوروبا قد فطنت إلى حماقة التجمع القومى وما يؤدى إليه من فساد فى الأرض وتقطيع للروابط الإنسانية فأنشأت تجمعا جديدا على أساس المبادئ لا على أساس القوميات .. أو هكذا قالوا هم فى دعاياتهم ! ولكن الحقيقة أن التجمع الجديد كان هو أيضا تجمع مصالح يتستر وراء المبادئ ، ويريد لمجموعة من الشعوب ، أو مجموعة من القوميات على الأصح ، أن يكون لها السيطرة على العالم ، وحدها من دون العالمين .. لأمر يراد !
وتم على أى حال لهذا التجمع ما أريد له من السيطرة فى الأرض ما يقرب من عشرين عاما ، حتى قامت الحرب العظمى الثانية ، التى استمرت من عام 1939 إلى عام 1945م ، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب ، غير المدن التى دمرت ، والمدنيين الذين قتلوا فى الغارات الجوية .. وغير قنبلتى هيروشيما ونجازاكى الذريتين ، اللتين قضتا على الوجود الحى كله من نبات وحيوان وإنسان فى مساحة واسعة من الأرض ، وما تزال تولد أجنة مشوهة من أثر الإشعاع الذرى السام الذى انتشر من القنبلتين فى أماكن بعيدة عن مكان الانفجار ، بعد ما يقرب من أربعين عاما من الحدث البربرى الفظيع ، الذى سمح به الضمير الأمريكى بلا تحرج ولا تأثم تأمينا " لمصالح " ذلك التجمع الشرير ! وما كان التجمع الآخر الذى انهزم بأقل شرا ولا خبثا ولا انعدام إنسانية عن التجمع الذى انتصر ! فلو أن هتلر سبق إلى استكمال القنبلة الذرية قبل أن يداهمه " الحلفاء " ويسرقوا " العلماء " الذين يعملون فى صنعها ، لكان قمينا أن يفعل بها مثل ما فعلوا أو أشد !
وبرز من الحرب الثانية " معسكران " مختلفان ، هما المعسكر الشيوعى والمعسكر الرأسمالى ، يبدو فى ظاهر الأمر أنهما تجمعان قائمان على " مبادئ " مختلفة .. خاصة وأن الشيوعية على الأقل تحمل مبادئ محددة ، وتحمل دعوة عالمية لنشر هذه المبادئ فى الأرض .
وقد مر بنا الرأى فى هذا الاختلاف وهل هو فى الجوهر الحقيقى أم فى القشرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .. ولكن هذا ليس معرض حديثنا هنا .. إنما نتكلم عن " المبادئ الإنسانية " التى تقوم عليها هذه المجتمعات أو تزعم أنها تقوم عليها !
تعلن الشيوعية دائما أن الدين لا يجوز أن يكون أساسا للتجمع ! إنما هو الآثار البالية التى أحدثتها عصور الرق والإقطاع والرأسمالية .. وأن تصحيح الأوضاع الذى تحدثه الشيوعية يقضى على تلك الآثار البالية ، ويقيم مجتمعا إنسانيا " حرا " لا تقوم فيه التفرقة على أساس الدين .. وطالما أبدت رأيها صريحا فى استنكار رغبة المسلمين فى شبه القارة الهندية فى إنشاء دولة " إسلامية " وقالت إن هذه اتجاهات رجعية لا ينبغى تشجيعها .
ثم قامت الدولة اليهودية عام 1948م ، على أساس الدين ، فهى من منشئها ، أو من منشأ الدعاية لها وطن " لليهود " ودولة " لليهود " وتجمع " لليهود " .
وفى منتصف الليل ، بتوقيت المنطقة التى أقيمت فيها الدولة اليهودية ، أعلنت أمريكا اعترافها بالدولة ، وبعد عشر دقائق اعترفت روسيا ! روسيا القائمة على أساس " المبادئ " التى تنكر قيام أى تجمع على أساس الدين !
ومنذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، تجتمع أمريكا الرأسمالية الإمبريالية التوسعية الرجعية ، وروسيا الشيوعية العقائدية التقدمية على الوقوف فى صف إسرائيل وعدوانها المستمر الذى لم ينقطع ، ضد العرب والمسلمين !
ثم تختصم روسيا وأمريكا فى كل شئ عدا ذلك ، ففى أى شئ تختصمان ؟!
على إقامة الحق والعدل فى الأرض ؟!
على تقرير حرية الشعوب فى اختيار مصيرها ؟!
كذلك تقول الدعاية المستمرة من الجانبين .. ولكن ما حقيقة الواقع ؟
ما الذى يحدث حين تمس المصالح القومية لأمريكا أو لروسيا .. أو يقف حائل دون " التوسع " و" السيطرة " و" السلطان " ؟!


[1] مما بلفت النظر في هذا الكتاب أيضا قول سارتر إن تقسيم فلسطين إلي دولة عربية ودولة يهودية لن يحل المشكلة اليهودية إنما الحل هو نشر الشيوعية العالمية وهو أيضا قول لا يحتاج إلي تعليق .
[2] راجع فصلي الديمقراطي والشيوعية في هذا الكتاب
[3] كتاب الإنسان ذلك المجهول ص 16 من الترجمة العربية ( تعريب شقيق أسعد فريد)
[4] أي في الحياة الدنيا
[5] أي بالتدمير عليهم لتكذيبهم.
[6] لانهم ما زالوا في جاهليتهم يكوهرون أن يذكروا الذين باسمه الصريح !
[7] قال تعالي : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ( سورة الحجر 9)
[8] " مار" جرجس أي الشهيد جرجس . وهي ليست ماري جرجس كما تجري علي ألسنة العامة في مصر
[9] الاختلاف الذي يمكن أن يقارن بذلك في العالم الإسلامي هو الخلاف بين السنة والشيعة ولكن ينيغي أن نتذكر أن الشيعة والسنة لم يختلفوا في قضية الألوهية وهي محور الخلاف الرئيسي بين المذاهب المسيحية المختلفة ولا في نبوة الرسول صلي الله عليه وسلم ، إنما كان في مبدئه خلافا سياسيا جول خلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجه ثم تطور إلي أمور أخري .
[10] كانت لغة الكتاب المقدس هي الاغريقية واللاتينية ولم تكن أيهما لغة شعبية
[11] يعلم المسلمون من القرآن أن المسيح عليه السلام لم يصلب ، لقوله تعالي : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم الإ ابتاع الظن وما قتلوه يقينا ، بل رفعة الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " ( سورة النساء 157-158) ولكن هذا لا يعفي اليهود في الحقيقة من وصمة الاجرام ، فقد ظلوا يحرضون الحاكم الروماني ببلاطس حتي اصدر حكمة بصلب المسيح فإذا كان الله قد رفعه إليه ولم يمكنهم من صلبة فإن جريمة التحريض باقية تصمم اليهود بالكفر والإحرام
[12] ص 212 من كتاب " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
[13] ص 154 من الكتاب المشار إليه
[14] ص 173-174 من المرجع السابق
[15] راجع فصل " دور اليهود في إفساد أوربا
[16] تفهم هذه العبارة خطأ علي أن " الأصلح" هو الأصلح خلقيا أو معنويا أو علي أساس أية قم رفيعة ، والتعبير في لغته الأصلية لا يحمل شيئا من هذه المعاني فكلمة Fittest  معناها : الأنسب " أي الذي يحمل المواصفات التي تجعله يتفوق في الصراع الدائر بين الكائنات وبين البينة ، لأن هذه المواصفات هي الأنسب للظروف البينية المحيطة فحين يحدث الجفاف مثلا يكون الكائن " الأنسب " هو النبات أو الحيوان الذي يحتمل العطش أكثر من غيره .. ولكنها  حملت معني " الأصلح " من إيحاءات الداروينية العامة .
[17] كلمة البرتغال : برتقال  هي كلمة عربية فقد كان المسلمون يسمون هذه المنطقة أرض البرتقال !
[18] كان هذا الطريق معروفا للمسلمين قبل ذلك بعدة قرون !
[19] كان لدي المسلمين خرائط دقيقة للشواطئ الأسيوية والأفريقية يستخدمونها في رحلاتهم التجارية من شوائط الصين شرقا إلي بريطانيا غربا وشمالا
" [20] " يقصد : أخذت تظهر .
" [21] " الإسلام على مفترق الطرق ، ترجمة عمر فروخ ، مقتطفات من ص 52 59 .
" [22] " ص 109 110 من الأصل الإنجليزى الطبعة الأولى سنة 1957م .
" [23] " سيأتى بيان هذا الأمر فى سياق الحديث .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar